يعود الأمريكيون للعراق من جديد لا للاعتذار من الأرامل والأيتام الذين خلفهم احتلالهم له ، بل ليستكملوا وضع اللمسات الأخيرة لخارطة الشرق الأوسط الجديد التي على مايبدو ان احتلاله عام 2003 لم يستكملها كما ينبغي. انهم يعودون فالعراق مايزال دولة من الناحية الشكلية فيما المخطط له أن ينقسم شعبه وأرضه الى ثلاثة أو أكثر من الدويلات المتعادية والمتنافسة على المياه والموارد والحدود ليكون نموذجا لدول الشرق الأوسط الأخرى سوريا ولبنان والأردن واليمن وايران وليبيا ومصر. ولأجل ذلك يعودون.
فقد صرح وزير الدفاع الامريكي أشتون كارتر أخيرا أمام لجنة الشئون العسكرية في مجلس الشيوخ بقوله اننا لا نتراجع عن تعهداتنا لشركائنا في حربهم ضد داعش من خلال عمليات نقوم بها مباشرة جوا أو على الأرض. نحن نتوقع تكثيف حملتنا الجوية بالتعاون مع حلفائنا لاستهداف داعش بضربات قوية ومركزة.” وقد وردت تلك التصريحات بعد محاولة الانزال الغامضة في كركوك من قبل قوات خاصة أمريكية حررت فيها ما سمتهم “رهائن كرد ” كانوا محتجزين من قبل داعش ، لكن ما تسرب من انباء عن العملية يشي بأشياء أخرى. فبحسب تلك التسريبات ان من تم تحريرهم هم ” دواعش ” تابعين للأمريكيين سبق والقي القبض عليهم من قبل مليشيات اسلامية شيعية ، لكن الغموض ما يزال يحيط بموضوع مهمة وجنسية أولائك الرهائن.
وحول ارسال قوات عسكرية ميدانية الى كل من العراق وسوريا أشارت صحيفة الواشنطن بوست هذا الاسبوع ان الرئيس أوباما قد يأمر بارسال قوات مشاة الى البلدين تنفيذا لخطة جرى دراستها مع قادة عسكريين كبارا قبل شهور بعد زيارة قام بها لوزارة الدفاع في تموز الماضي. وبحسب الصحيفة فان زيادة الدور العسكري الأمريكي في العراق وسوريا يشكل تراجعا عن تعهد الرئيس بعدم زج القوات العسكرية في عمليات عسكرية مباشرة في الدول الاخرى. و يبدو ان تغييرات في القيادات السياسية والعسكرية العراقية ستسبق التورط العسكري الأمريكي المباشر في العراق حيث تتداول وسائل الاعلام المحلية والعالمية عن قرب ازاحة الدكتور حيدر العبادي عن منصبه وتعيين آخر أكثر ولاء للسياسة الأمريكية وخدمة لمصالحها الجيوـ سياسية في العراق وفي المنطقة. وليست بدون أسباب يطلق وزير الدفاع الأمريكي تصريحاته المعيبة بحق الرئيس العراقي حيدر العبادي وكأن الأخير موظفا تابعا لادارته.
فبعد التصريحات التي أعلن فيها عن خطة زيادة التدخل العسكري المباشر في العراق وجه كارتر انتقادا شديد اللهجة وبعيدا عن اللغة الدبلوماسية المتعارف عليها في السياسة الدولية حيث اتهمه بالعجز عن منع النفوذ الايراني على حكومته ولو كانت الحكومة العراقية مستقلة ووطنية حقا لاستدعت السفير الامريكي ببغداد وسلمته احتجاجا شديد اللهجة على التصريحات الحمقاء التي أطلقها وزير دفاعه وطالبته باعتذار رسمي من حكومته في واشنطن الى الحكومة والشعب العراقي. وفي خرق آخر للسيادة العراقية وأكثر عدوانية وخطورة أبدت لجنة الدفاع المشكلة من الحزبين الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي في مجلس الشيوخ الأمريكي تأييدها للاجراءات المتخذة لبناء قوات عسكرية سنية عربية وأخرى كردية موالية للامريكيين ضد الهيمنة الايرانية الروسية في العراق. ومن جانبه أشاد السناتور الجمهوري جوني أيرنست بمليشيات البشمركة الكردية قائلا ” لقد كانوا حليفا عظيما لنا حيث مثلوا القوة الوحيدة الجاهزة على الدوام للعمل”.
ويظهر أن تلك المواقف الأمريكية المشينة التي وردت على لسان وزير الدفاع وأعضاء مجلس الشيوخ قد جاءت ردا على التصريحات التي عبر فيها بعض أعضاء مجلس النواب العراقي عن الرغبة في التعاون العسكري مع روسيا في الحرب ضد داعش ومشاركة العراق في اللجنة التشاورية الرباعية التي ضمت الى جانب العراق كلا من روسيا وايران وحزب الله ومقرها في بغداد لتنسيق الجهد المشترك وتبادل المعلومات عن الحملة العسكرية التي بدأت قبل اسابيع في سوريا لاستئصال المنظمات الارهابية فيها. لقد أصيب الأمريكيون بنتيجة تلك التطورات بالصدمة لخشيتهم من تزايد دور روسيا في المنطقة على حسابها. فالنجاحات العسكرية التي حققتها الغارات الجوية الروسية المباشرة في ضرب مواقع المنظمات الارهابية أحدثت ردود فعل ايجابية داخل المجتمع السوري والعراقي.
ردود الفعل الجماهيرية هذه هي أخبار غير سارة للولايات المتحدة التي اعتقدت ان زوال الاتحاد السوفييتي قد منحها الحق في السيادة على العالم والعبث بالدول الصغيرة كما يروق لها وتعاقب اذا ما دافعت عن حقوقها ضد الهيمنة والتسلط وانتهاج السياسات التي تخدم مصالحها السياسية والاقتصادية. فالولايات المتحدة وحلفائها ينظرون الى روسيا بكونها الوريث لذلك الكابوس الذي اسمه السوفييت ومن هذا المنطلق يحاولون بكل السبل الممكنة نشر الأكاذيب لتشويه النجاحات التي حققتها الغارات الجوية الروسية خلال الأسابيع الثلاثة الماضية في سوريا. فهم ينظرون لسوريا كونها آخر حلفاء الاتحاد السوفييتي السابق وروسيا حاليا. وليس بدون معنى ان يعلن مشايخ السلفية في السعودية وقادة الأخوان المسلمون في منطقة الشرق الأوسط الجهاد ضد روسيا وما الدعم الذي تحظى به المنظمات الجهادية من قبل السعوديين والأمريكيين الا التعبير الواضح عن ذلك.
حيث أكد ذلك الرئيس السابق للاستخبارات العسكرية الامريكية DIA) ) مايكل فلين في مقابلة له أخيرا ” ان الولايات المتحدة قد سمحت لداعش في التوسع في سوريا وان هناك امكانية لاقامة منطقة يحكمها ويديرها السلفيون في شرق سوريا وهذا ما تسعى له القوى الداعمة للمعارضة السورية من أجل عزل النظام السوري”. وتأكيدا على ذلك ذكر الكاتب والصحفي روبرت فيسك لبرنامج تلفزيوني أوسترالي ” la teline” بأنه كان بامكان الأمريكيين قصف قافلة من العربات لداعش كانت في طريقها لاحتلال المدينة الاثرية بالميرا لكنهم بدلا عن ذلك أتاحوا لها احتلال قاعدة عسكرية سورية قبل محاولة تدمير المدينة الأثرية. ونفس الشيئ حدث مع مواقع للقاعدة في منطقة شمال مدينة حماة كمحاولة من الامريكيين لمنع القوات السورية من تعزيز مواقعها في المنطقة التي تقوم روسيا حاليا بقصفها.
انهم يعودون لاحتلال بلدنا … فهل سيتيح لهم ذلك شعبنا دون بحر جديد من الدماء…؟ هذا ما ستأتي به الأسابيع والشهور القادمة.