لقد كان حزب الله رمزا للحراك الإسلامي النقي الذي اتسق مع مفهوم الجهاد في سبيل الله، قاتل بعزيمة المسلمين الأُول، عدوا لا خيار أمام الأمة إلا قتاله، انتصر عليه في أكثر من واقعة، وكان في كل انتصار مصداقا لقوله تعالى {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ}، لأن انتصاراته تثلج صدور العرب والمسلمين، وتهز في الوقت نفسه عروش الحكام الظالمين، فهو حزب دفع دما من أجل الحرية كان عليه أن لا يدعم الدكتاتوريات ولا ينخرط في أحداث سوريا، التي اندلعت شرارتها اثر انتفاضه مطالب محقة لشعب ضاق ذرعا بحكم البعث ودكتاتورية آل الأسد وزمرتهم التي أحكمت قبضتها الظالمة على البلاد والعباد، وكما قمع الأب، أي الأسد الأول، حافظ، معارضيه وقصف حماة وحلب بالمدفعية والطائرات، قمع الابن، أي الأسد الثاني، بشار، معارضية بالأسلوب نفسه، وسيفعل الأسد الثالث، إذا قدر له أن يحكم، الفعل نفسه، فنحن في جمهورية أُميّة الثانية، وهذه من مهازل الديمقراطية العربية، وعلى الأثر تدخلت القوى الإقليمية المتصارعة، واندلعت حرب، ارتكبت فيها أبشع الجرائم بحق السوريين، فمن المؤلم أن نرى قوافل شهداء المقاومة الإسلامية القادمة من الجنوب حيث يجثم الكيان الصهاينة على فلسطين، تَقدِمُ من الشمال حيث تتصارع قوى اقليمية لاقتسام سوريا غنيمة، عندها وبكل ألم أصبح حزب الله مثل طالب بدأ مجداً مجتهدأ، يحصل في كل فصل على الدرجة كاملة، ليكون مصدر تقدير واعجاب الجميع، لكنّه في الفصل الأخير فشل فشلا ذريعاً، فلم تنفعه نجاحاته السابقة في التغطية على فشله اللاحق، والأمور في الدين والدنيا بخواتمها.
في السياسة تسقط كل المقدسات، ومن يدخل عالم السياسة عليه أن يخلع جلباب القداسة، أو على الأقل يخلع جلباب الدين، فيعرص نفسه للنقد، لكي يصحح مساره بشكل مستمر، أمّا أن يدخل عالم السياسة بكل دهاليزه وكواليسه، ويوهم بسطاء الناس وعامتهم أنه مقدس، فذلك هو التزييف بكل معانيه، فليس من الحق ولا من العدل والانصاف تواجده في مستنقع السياسة، ومطالبتة الناس أن يروه في محراب العبادة، فالمحراب للعبادة والسياسة لحياكة شباك الاصطياد، ومن أبرز شواهد هذا الأمر علي بن أبي طالب (ع)، فعندما تدافع الناس عليه ليحكم، قال قوله الشهير: دَعُونِي والْتَمِسُوا غَيْرِي، ليس لأنه غير قادر على الحكم، فقد اثبتت الوقائع وأقرّ الخصوم قبل الموالين أنه أعدل الحكام في الدنيا، ولكنه يعلم أن المطلوب منه، بصفته الإمام الولي، بشهادة الله جلّ وعلا ورسوله (ص) الدخول إلى عالم السياسة، وفي النتيجة بدى للناس أنه فشل في الحكم، لأنه لم يستطع السيطرة على الواقع الذي تفجر في وجهه فاستشهد، ولكن الحقيقة أنه نجح في الحكم نجاحا لم يسبقه أحد إليه، لأنه حكم بالعدل، وهذا هو المطلوب من الحاكم، بل هو ما أراده الله جلّ وعلا بقوله {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، ولكي لا يتصور أحد أن العدل الوارد في الآية الكريمة مفهوم مجمل، وأن كونه مجملا يعطي الضوء الأخضر للحاكم، أي حاكم كان، لتفصيله، فقطعا للطريق على أي تصور من هذا القبيل، ورد في القرآن الكريم ما يفصل، لا استطيع استعراضه، لأني لست في صدد بحث مفهوم العدل، ولكن ما أريد قوله أن قداسة الولاية التي تمتع بها علي ع أجبرته أن يحكم من دون الدخول إلى مستنقع السياسة، ففشل سياسيا، نعم فشل! فقد كان من المتاح له سياسيا أن يستعمل طلحة والزبير على بعض أمصار الدولة الإسلامية وأن يبقي معاوية واليا على الشام، وأن لا يقدم على عزل عمال عثمان الذين كانت تدور حولهم الشبهات، ليجلس على كرسي الحكم هانئ البال، لا يشغله أي قلق، ولكن العدل الذي آمن به لم يتحقق، ولا أُريد التفصيل والاطالة في هذا السياق، فعلي (ع) لا يحتاج إلى شهادة مني أو من غيري، بعد شهادة رسول الله ص له بأنه يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، إن العدل نفسه الذي استشهد علي (ع) من أجله لم يجانبه الراشدون الذين حكموا قبله، فقد كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما من أعدل الحكام، حتى عثمان لم يجانب العدل، ولكن البطانة الأموية التي أحاطت به، عتمت عليه الواقع، في سياق مخطط لتحقيق هدفها في استلام الحكم.
ان المؤسسين لحزب الله الذين أعلنوا عن انطلاق مسيرته المباركة عام 1985م، علما أن مقاومتهم للاحتلال كانت قد بدأت منذ عام 1983م، كانوا مقاومين، هدفهم مقارعة الكيان الصهيوني لاقتلاعه ليس من أرض لبنان التي اجتاحتها جيوشه المعتدية عام 1982م وإنما من أرض فلسطين كلها، التي أقام عليها دولته الغاشمة، حتى إن نقاشاتهم منذ بداية انطلاقتهم كانت تدور حول سؤال هل حزب الله حركة جهادية تتعاطى الشأن السياسي، أم هو حركة سياسية تتعاطى الشأن الجهادي، وكانوا يرونه حركة جهادية، وكان طوال مدة بقائه حركة جهادية، قدم أروع أمثلة الجهاد، وكان ساسة لبنان، وكل العرب الفاسد منهم والصالح، يقرون بذلك صدقا أو ادّعاء، لكنه اليوم يدفع ثمن انخراطه الكامل في السياسة وصراعاتها الإقليمية، باهظا من مصداقيته، ويضع نفسه في خندق واحد مع رموز النظام الطائفي الفاسد، بقايا مجرمي الحرب الطائفية، وتجار الدم اللبناني والفلسطيني، ويرمي لهم طوق النجاة بعد ان أوشكوا على الغرق في طوفان الثورة الشعبية.