23 ديسمبر، 2024 5:30 م

ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن

ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن

المتأمل في قانون العلية واختلاف الفلاسفة في المصاديق التي تتفرع عليه لا يحتاج إلى بذل الجهد في الكشف عن حقيقته باعتبار أن التجارب الساذجة تبين نسبة الأسباب إلى مسبباتها بواسطة ظهور النتائج المأخوذة من المقدمات، وقد يظهر هذا جلياً للمتأمل الذي يدرك الأسباب أو الباحث في الحقائق الكونية التي تظهر النتائج على أتم وجه، وهذه من المسلمات التي دأب الإنسان على تأكيد علائقها وإن كان يدرك بفطرته أن هناك علة واجبة يمكن إرجاع قانون العلية إليها دون الاستقلالية التي يمكن إدراكها حسب التطبيقات التي لا تتخلف عن السنن الكونية، وقد بين القرآن الكريم هذه الحقائق وبطرق مختلفة دون النظر إلى الاستقلالية المطلقة للعلائق المترتبة عليها، كما في قوله تعالى: (قلنا يا نار كوني برداً وسلاماً على إبراهيم) الأنبياء 69. وكذا قوله: (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقاً في البحر يبساً لا تخف دركاً ولا تخشى) طه 77. بالإضافة إلى إلقاء موسى في اليم وما حصل ليوسف وأصحاب الكهف وصاحب الحمار الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها.. إلخ.
 
من هنا يظهر أن الحقيقة التي يجهلها الإنسان الذي هو خارج أطر التشريع لا يمكن لمتعلقاتها إلا أن تجانب فهمه الساذج باعتبار أن النواميس الكونية التي سيرها الله تعالى في نظام متكامل لا تتخلف عن خصائصها الحركية التي يرجع الثقل الأكبر فيها إلى المتغيرات المشتركة بين أسس التشريع وكذا العلاقة التي تربط تلك المتغيرات مع النظم التكوينية التي تخضع للمشيئة الإلهية التي هي خارج مفهوم الإنسان الذي لا يجد تعليلاً لمنشأها إلا من خلال الأمثلة التي يجدها في الكون وهذا لا يتأتى لجميع الناس بسبب النتائج التي منع الدأب عن كشف حقائقها أو العادات المتأصلة عند الإنسان الذي ران على قلبه ما يباعد بينه وبين اكتشاف تلك الظواهر التي ترد إلى واجب الوجود سواء كان للواسطة دور فيها أم لم يكن، وقد أشار سبحانه إلى ذلك في قوله: (وأن إلى ربك المنتهى) النجم 42. وعند تأمل الآية الكريمة وجمعها مع العلائق التي تكلمنا عنها يظهر أن إرادة الإنسان وسعيه إلى جلب المنافع أو دفع المضار تكون خاضعة إلى الأسباب الأولية التي لا يمكن التخلص منها وإن شئت فقل هي بمنزلة العامل المشترك الذي يربطه في جميع الأطوار التي يمر بها دون سلب الاختيار منه وإن كان ذلك تابعاً للنظام الكوني الذي تترتب عليه علاقة الأسباب بمسبباتها وهذا ما أشكل على من يثبت الجبر.
 
وبناءً على ما تقدم نجد أن التطبيقات القرآنية التي تربط الإنسان بما هو مألوف من الحقائق الظاهرة أمامه، كالسماء، الماء، الأشجار، الأنعام، الطير،.. إلخ لا تخرج عن الدلالات الواقعية التي يستند عليها العلم المشاهد باعتبار أن القرآن الكريم يخاطب الإنسان من خلال الطبيعة الواقعية المألوفة لديه في جميع مراحله، فالإشارة إلى القمر بالنور والشمس بالسراج وكذا نسبة الزينة إلى الكواكب، كل هذه الحقائق لا تعزب عن بصر الإنسان من خلال المشاهدة البدائية، وإن كان التطبيق العلمي لا يجانب ظهورها للعقل أول وهلة، أو عندما تتم الاكتشافات اللاحقة لعصر التنزيل، أضف إلى ذلك أن الأصل لا يتعدى إلى أكثر من ارتباط الإنسان بالحجب الواقعة بينه وبين النظام التطبيقي للمشاهد الواقعية. أما إذا ظن الإنسان أن المشيئة الإلهية هي التي تتحكم في جميع حركاته دون سلب الاستقلالية التي تجمع بينه وبين اختياره من جهة ومن جهة ثانية تنسب الأسباب والمسببات إلى علتها الواجبة كما أسلفنا ههنا يمكن أن تكشف له الحقائق التي باعد الرين بينه وبينها أثناء الفترة التي ركن فيها إلى الأرض ولم يتبع طريق الرشاد.
 
من هنا نجد أن أهداف القرآن الكريم تتمثل في إثارة اهتمام الإنسان وتذكيره مرة بعد أخرى لما يجري حوله سواء في السماوات أو الأرض وصولاً إلى أعماق نفسه التي تتجاذبها نوازع الغفلة، وقد بين تعالى ذلك في قوله: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذاريات 21. بالإضافة إلى التذكير بملازمته له في كل وقت وعلمه بما توسوس به نفسه وكذا علمه بذات الصدور. وهذه الترتيبات وإن كانت لا تعزب عن بصيرة المتأمل إلا أن القرآن الكريم يذكر الإنسان بها مرة بعد أخرى وهذا ما بني عليه التشريع، كما في قوله تعالى: (وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين) الذاريات 55. ثم أكد الكبرى بقوله: (فذكر إن نفعت الذكرى) الأعلى 9. بعد ذلك أكد الطلب بوجه آخر في قوله: (أو يذكر فتنفعه الذكرى) عبس 4. ثم انتقل إلى مرحلة التشديد بقوله: (وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين) الأنعام 68. وأخيراً بين المرحلة التي لا تنفع معها الذكرى وذلك في قوله: (وجيء يومئذ بجهنم يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى) الفجر 23. وبهذه النتيجة نفهم أن القرآن الكريم قد دأب على التذكير بالأسباب التي تجعل فطرة الإنسان أمام الواقع المألوف دون أن يغفل الأسباب الطبيعية ومسبباتها التي تنتهي إليه سبحانه في عجيب صنعته التي أشار إلى أحد مصاديقها في كيفية إمساك الطير في جو السماء، وذلك في قوله تعالى: (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن إنه بكل شيء بصير) الملك 19. وللمفسرين في الآية آراء:
 
الرأي الأول: قال الزمخشري في الكشاف: (صافات) باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانها لأنهن إذا بسطنها صففن قوادمها صفاً (ويقبضن) ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن. فإن قيل: لم قيل: ويقبضن، ولم يقل: وقابضات؟ قلت: لأن الأصل في الطيران هو صف الأجنحة لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طار غير أصل بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة كما يكون من السابح (ما يمسكهن إلا الرحمن) بقدرته وبما دبر لهن من القوادم والخوافي وبني الأجسام على شكل وخصائص قد تأتى منها الجري في الجو (إنه بكل شيء بصير) يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب. انتهى. أقول: السؤال المفترض الذي أجاب عنه الزمخشري بعد توجيهه لنفسه، ذكره جمع من المفسرين منسوباً إليه باستثناء الرازي الذي نسبه إلى نفسه، أما فضل الله فقد قال بعد نسبته للزمخشري.. إنه توجيه طريف. 
 
الرأي الثاني: ذكر ابن عاشور في التحرير والتنوير: إن هذا الإطناب في هذه السورة مخالف لما في نظير هذه الآية من سورة النحل (79) في قوله: (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله) وذلك بحسب ما اقتضاه اختلاف المقامين فسورة النحل رابعة قبل سورة الملك فلما أوقضت عقولهم فيها للنظر إلى ما في خلقة الطير من الدلائل فلم يتفطنوا وسلك في هذه السورة مسلك الإطناب بزيادة ذكر أوصاف ثلاثة: فالوصف الأول: ما أفاده قوله: (فوقهم) فإن جميع الدواب تمشي على الأطراف والطير كذلك فإذا طار الطائر انتقل إلى حالة عجيبة مخالفة لبقية المخلوقات وهي السير في الجو بواسطة تحريك جناحيه وذلك سر قوله تعالى: (يطير بجناحيه) الأنعام 38. بعد قوله: (ولا طائر) الأنعام 38. لقصد تصوير تلك الحالة. انتهى. ومن أراد تكملة البحث فليراجع تفسير التحرير والتنوير.
 
الرأي الثالث: يقول الطباطبائي في الميزان: المراد بكون الطير فوقهم طيرانه في الهواء وصفيف الطير بسطه جناحه حال الطيران وقبضه قبض جناحه حاله، والجمع في (صافات ويقبضن) لكون المراد بالطير استغراق الجنس وقوله (ما يمسكهن إلا الرحمن) كالجواب لسؤال مقدر كأن سائلاً يسأل فيقول: ما هو المراد بإلفات نظرهم إلى صفيف الطير وقبضه فوقهم؟ فأجيب بقوله: (ما يمسكهن إلا الرحمن) وقرار الطير حال الطيران في الهواء من غير سقوط وإن كان مستنداً إلى أسباب طبيعية كقرار الإنسان على بسيط الأرض والسمك في الماء وسائر الأمور الطبيعية المستندة إلى علل طبيعية تنتهي إليه تعالى لكن لما كان بعض الحوادث غير ظاهر السبب للإنسان في بادي النظر سهل له إذا نظر إليه أن ينتقل إلى أن الله سبحانه هو السبب الأعلى الذي ينتهي إليه حدوثه ووجوده، ولذا نبههم الله سبحانه في كلامه بإرجاع نظرهم إليها ودلالتهم على وحدانيته في الربوبية، وقد ورد في كلامه تعالى شيء كثير من هذا القبيل كإمساك السماوات بغير عمد وإمساك الأرض وحفظ السفن على الماء واختلاف الأثمار والألوان والألسنة وغيرها مما كان سببه الطبيعي القريب خفياً في الجملة يسهل للذهن الساذج الانتقال إلى استناده إليه تعالى ثم إذا تنبه لوجود أسبابه القريبة بنوع من المجاهدة الفكرية وجد الحاجة بعينها في أسبابه حتى تنتهي إليه تعالى وأن إلى ربك المنتهى. انتهى موضع الحاجة. فإن قيل: إذا كان الله تعالى يمسك كل شيء فما معنى اختصار الآية على الطير؟ أقول: دأب القرآن الكريم على تبيان الخاص بعد العام حسب العناية التي يقتضيها المقام، وآية البحث تعتبر بمنزلة الصغرى لقوله تعالى: (ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه) الحج 65.