وأنتَ آتٍ من بغداد لتدخلَ بعقوبة بسلام آمناً، ستقفُ مبهورا أمام أجمل مدخل لمدينة عراقية، فهذي البساتين تتمددُ ذات اليمين وذات الشمال، وهذا نهر ديالى الهائلُ يتباهى بعذوبته وأسراره، وترى أمام عينيك الجسرين النازكين التوأم حتى ان كان هذا من الحديد وذاك من الإسمنت، وتعبرُ الجسرَ الحديد فتتلألأُ على يمينك بيوتٌ يتوهجُ منها الجمالُ والحُسنُ والملامحُ الأوربية وبمفارقةٍ يطلقون عليها تسميةَ “قرية”، إنّها “شفته” وهي من حارات البلدة، وعلى رتاجها يشمخُ بيتُ اسماعيل حمدية وهو من أفره البيوت.
وقبل سنين، عندما كان الجسرُ الحديد خاصاً بالقطار، كنتَ تعبرُ الجسرَ الاسمنت وتخافُ أن تنظرَ الى يسارك حتى لو لَسعَكَ زنبورٌ على خَدَّك الأيسر لأن بيتَ مدير الأمن كان يستقرُ في رقبة الجسر.
تعبرُ الجسرَ وتقفُ في نقطةٍ هي التقاءُ السموات بالأرضين حيث يعلو تمثالُ “الفلاحة”، وحيث المنتزهُ الأوحدُ ومن اسمه تعرفُ تأريخَه فهو يحملُ اسم “١٤ تموز” وهو شاهدٌ شهيدٌ على أفراحِ الأعياد وختلاتِ العشاق وجلساتِ السكارى المفلسين.
تتمشى وتقفُ على قنطرةِ مرور البلدة، فترى على يمينك مقاماً شاهقاً هو مرقدُ “أبو ادريس” الذي يحتضنُ بكاءَ المظلومات وزغاريدَ الصبايا ورفاتَ الأهل، وغالبا ما يكونُ الرفاتُ أمانةً الى أن تتحسنَ الأحوالُ أمناً ومالاً، وترى أيضاً بستانَ بيت حبيب “بستان الطلايب” الذي للآن يضوعُ بعبقِ المحاضر وشذا التعاليم ورجعِ الأغاني الحنينة ومداهمات الحلفاء الأعداء.
هذه القنطرةُ هي واحدةٌ من خمس قناطر على نهر “خريسان” داخلَ البلدة، فعلى يمينها توجدُ قنطرة “ابو ادريس” وعلى يسارها قناطرُ “الشبيبة” و”المصرف” و”خليل باشا”، وللعلم والاطلاع والتثبّت فإنّ “خريسان” هو شقيقُ أهل المدينة كلهمو.
تتقدّمُ فتعبرُ القنطرةَ الى الشارع الطويل، كان جميلاً ساحراً ومخمليا ثم غدرَ به الزمان فكبّه على وجهه وأغلقَ منافذه، وعلى يمينك كان يتراصفُ گراجُ بغداد ومحطةُ القطار والكانتينةُ وابراهيم ازعيلة وگهوةُ مجيد سبّاب وگراجُ مندلي وحانةُ “البيضاء” الغريّدةُ ليلَ نهارَ بـ “يا ظالمني” ثم تصلُ البيوتَ اللاتُضاهى قبالةَ إعدادية الصناعة ومنها بيتُ مديرها جليل حيدو الذي ترعرعتَ فيه فتىً مع ابنه وجدي فهو تِربك.
وعلى أكتافِ هذا اليمين المشتعلِ بالشواخصِ والذكرياتِ والحنينِ يتشاسعُ حيُّ التحرير الذي كان اسمُه “الشمّاع” أيامتلك.
وتقفُ عند دكةِ العمّ “أبو ناظم”، وتترنم “يا حبيباً زرتُ يوماً أيكهُ..” ويطيرُ الشوقُ ثم يحطُّ، فتنقلُ مقلتيكَ بين الصمت والضجّات، بين معسكرِ سعد الساكن ومدينةِ الألعاب الموّارة، وقربهما تسترجعُ صيحاتِكَ في الملعبِ الرديفِ وأنتَ مع آلافٍ مؤلفة تشجّعُ عدنان القيسي وهو يصارعُ هرقلاً قد يكون فريري أو جون ليز أو كامبيل أو كوريانكو، وقد لا.
وتسلّمُ بحرارةٍ على “أبو ناظم” ثم تمضي يساراً فيتلألأُ السيدُ التأريخُ على يمينك، إنّه المهدُ وأعني متوسطةَ بعقوبة التي أصدرتْ مجلةَ (الإشراق) لأنّ فيها كان قوسُ قزح من الأساتذة حازم الآلوسي ومحمد كريم حسن أسطة عباس وعبود عبد الكريم ومحي الدين زنگنه وعبد الأمير الحبيب وخليل المعاضيدي وسعدي عبد الرزاق آل دفتر وعيسى الشارود وسعيد وصفي ومظفر حميد ناجي وبطرس وإحسان وحاتم وفرج ومهدي وناطق وغصوب ونيوتن، وتستيقظُ المواجعُ عندك لأن ثمةَ متوسطةً أخرى هي للبنات قائمة على خطّ شرحك، وما زالتْ قاعةُ التربية تعبقُ بروائح الأوبريتات المدرسية ومسرحيات الضدان واليانكي والإجازة والسؤال وبغداد الأزل، وما زال كريمُ الدهلكي يعلّمُ المدينةَ صلاةَ الصبح الحديثة، وما زالتْ معاملُ المانيفاكتورة تحيطُ بگراج بغداد وخانقين، وما زالتِ العلوةُ تزيدُ اخضرارَ البلدةِ خضرةً، فيما أُزيل السجنُ أو قلْ أُزيلتِ العلامةُ السياسيةُ الفارقةُ لبعقوبة.
وتمشي الهُوَينا وأنتَ تلتقطُ صمونةً حارةً ومُگسبة ومُسمسمة من أفران الكبيسي، ويدومُ انتشاؤك عندما تقفُ شامخاً أمامَ مدرسة “الأمين” حيث العراقةُ تتجددُ، وعلى مرمى يمينك تَرى قاعَ المدينة مرمياً في “جرف الملحِ” والفاقةِ، وهنا خلفَ تيغةِ البساتين المطلّةِ على فلكة (بيت گُلاز) أسستِ القاعدةُ أواخر عام ٢٠٠٦ عاصمةً لخلافتها التي طارتْ في مهبّ بشائرِ الخير.
وبعد أن تضعَ بابَ الدرب على يمينك، عليكَ أن تولّي وجهكَ حيث شارع مدرسة الفضيلة فتنتعشُ جوارحُك حتى لو كنتَ تسيرُ في قائظةِ تموز لأنّكَ في حومةِ معملِ ثلج الديري، وتسيرُ في الشارع الطويل الذي يذكّرك بأغنية عبد الحليم حافظ “ضيّ القناديل”، وعلى يمينك يستمرُ خطُّ البساتين حتى محلة “السوامرة” التي تصلها فتقفُ على قنطرة “خليل باشا” وتحتضنُ بحنانيك خريسانَ، وتنظرُ هيبةً الى هالةِ مَدرستين فالانتصارُ من عهدذاك والوثبةُ في عهدذا، ثم تنظر بأسىً لتانكي الماء الذي ما عادتِ اللقالقُ تعشعشُ عليه، فما عليكَ الا أن تغذَّ السيرَ وتدعَ موارباً طريقَ الهويدر على يمينك، ومن بين حزمتين من البساتين تصلُ الجسرَ الحديد فتسلّمُ على الشريفِ وتلوّحُ لفراس الشيباني، ومن لهفتك يقعُ – كالعادة – بعضُك في نهر ديالى، وهذا البعضُ قد يكون قلبك أو عينك أو يدك أو الكبدا، وتسيرُ على الجرفِ فيما تستطيلُ على الجرفِ الآخرِ ظلالُ بعقوبة الجديدة، وتسيرُ على الجرفِ بين النهرِ الخليل وبين البساتينِ، وزوّادتُكَ هي أغنيةٌ فحسب: “امعاتبين اجدامكم.. عتب الشواطي امعاتبين…… منتهين.. احنه سبّاح بجرفكم منتهين”.
وبالأغنيةِ تصلُ مترنحاً وتقفُ تحت الجسرين التوأم، وتكادُ رئتاك تطفرانِ مع زفيرِ آهاتك من هول التذكّر، فتصعدُ من خلل المنتزه إياه، تصعدُ وأنفاسُك تصعدُ، تصعدُ وتقفُ عندَ تمثال “الفلاحة” حيث انطلقَ بك موكبُ الذكريات في أولّ الورقةِ هذه..
تقفُ وعلى يسارك يكونُ القلبُ من المدينةِ، وفيه ترى نادي المعلمين الذي آواك ورَبعَكَ أيامَ الخساراتِ والأحزانِ والحروبِ وتبرعمِ الشعر في بيشاتِك، وترى الحسينيةَ وسيارةَ السيد عبد الكريم والمواكبَ الحافظةَ للهوادج ولبقايا أصواتِ التويني والرميثي ووطن و”يلي دمك كربلانه اشما تصير الناس كوفة”، وترى الجامعَ والمظلةَ البيضاءَ للشيخ صفاء الدين وتدورُ روحُك مع تراويح رمضان، وترى السرايَ العظيمَ الذي تربيتَ بين أواوينه وارتويتَ من رطوبته ونهلتَ من اتحاد أدبائه الفذّ، وترى مقاهي الشبيبة والزهاوي و”أبو رقية” وهي لمّا تزل تُعمِّر أراگيلها بمرويات البرتقال، وترى النارنجَ المشاكسَ يتدلى من حيطان البيوتِ فتأخذُ منه ما تحتاجُه في ليلِك الليلَكيّ.
وطبعا ما زال قلبك الفتيّ يتمشى بكرةً وأصيلا في شارع فرن صمون جوامير، وما زال ينظر الى بيت لطيفــشكر، وما زال يسكن تحت قَمَريات بستان نوفل بيت حبيب أو بستان “ميّاس” كما صار يحلو لنا أن ننعتَه في الألفية الثالثة، وقُبالتَه كانت – وليتها ما كانت – مديرية الأمن التي هي أيضاً كانت تستضيفُ قلبك الفتيَّ ذاتَه في دورات الفَلقة وشرر الصفع بالشحاطة ومطر الدونكيات وتعليق”البانكة” ونَتلات الكهرباء وشتائم الضباط الأشاوس مؤيد وصباح ومحمود ونجم وعبد الصمد، وما كان القلبُ يهابُ أو يخافُ أو يقرُّ أو يعترفُ أو حتى يحتسبَ لأنه كان مطمئناً، نعم كان يتلوى ويتأذى ويُدمى ولكنه كان مطمئناً لأن حفلة التعذيب تقام تحت سماء البرتقال.
وترى الإعداديةَ المركزيةَ وأيقوناتِها جعفر الحمداني وعبد الحليم المدني وصالح العزاوي وأحمد الماشي وظاهر شوكت ومؤيد عكاوي وعبد علي جميل شيعي ورشيد الشيباني وسمير عيسى وخالد الدجيلي وورقيّات اتحاد الطلبة العام التي يناولكها الحميم جمال أحمد النعيمي.
وترى عبر السوقِ القديمِ الختيارية الصادقينَ الثلاثةَ صادق بَني وصادق شيرخان وصادق كرادي، وتمشي مع خليلوك بدشداشته المقلمة، وتقف أمام الأوقاف لتتأمل لؤلؤة أحمد خالص الشعلان الذي تمنيته أن يكتب يوماً عنك.. نعم أن يكتب هو فقط عنك لاغيره.
وترى شارعَ الأطباءِ المُورق بطالب علي وبالدكتور علي العبيدي وبعزيز الحسك وبصباح الأنباري وبستوديو الأمل وبسينما النصر وبالمكتبة المركزية التي تحملُ كتبُها كلُّها توقيعَكَ النزقَ، وتسلّم على الجذر جبار صديقة الذي لم يكن يجلس على كرسيه أمام بيته الأنيق بـ “السويدية” بل كان يجلس على قلب جاره (رجل) الأمن محمود السريّ.
وترى حيدر عزيز الخياط في دكانته بسوق بندر وهو يجمعُ لك اليومياتِ السعيدةَ،، وترى بيتَكم الذي بالقلم والفرجال والمسطرة صار مركزَ بعقوبة فيا أُبّهتاهُ يا بيتاً ما زال يحيا تحت دعاء مئذنة جامع الفاروق وملءَ بابِهِ عطرُ (زبيدة ثروت) وهي تمرقُ أمامَه كلَّ صباحٍ الى إعدادية البنات.. إعدادية الروح والرياحين..
هذه بعقوبة..
هذه بعقوبة ذات اليمين وذات الشمال..
نعم هذه بعقوبة التي حددتُها كي أستثنيها من إعجابي الشديدِ ببيتين لشيخِنا جلال الحنفي:
{أحببتُ بغدادَ ولستُ أخالُني
مستبدلاً سعدَ السعودِ بنحسِها
إني لأفديها بكلِّ مدينةٍ
في الخافقين بِجِنّها وبإنسِها}
نعم أفدي بغدادَ بكلِّ مدينةٍ في الخافقين الا بعقوبة..
———————