حضرنا مجلس عزاء لاحد الاخوة, وكان بقربي مجموعة من الحضور في نقاش شديد حول “الدولة العميقة”, واختلفت تفسيراتهم لها, فاحدهم يعرفها بانها بقايا البعث لا غير, واخر يقصد الساسة المتنفذون وقوتهم في تسخير مقدرات الدولة لخدمتهم, واخر كان يقصد السفارة الامريكية بالدولة العميقة, الحقيقة وجدت الموضوع مهم للكتابة, خصوصا ان مصطلح “الدولة العميقة” متداول كثيرا, وهكذا وجدت نفسي اكتب عن ماهية الدولة العميقة.
اول الكلام سيكون عن تاريخ هذا المصطلح السياسي الملفت, كي نؤسس الافكار بشكل متسلسل, ثم التطرق للمثال الامريكي والتركي والمصري الاقرب للفهم.
· ولادة مصطلح “الدولة العميقة”
في عام 1923 نشأت في تركيا ظاهرة الدولة العميقة، وهي: “عبارة عن شبكة سرية أنشاها مصطفى كمال أتاتورك، وعُرفت هذه الشبكة باسم “Derin Devlet” ومعناها “الدولة العميقة” وتتألف هذه الشبكة من عدة مجموعات من الشرطة وضباط القوات المسلحة وبعض من رجال القضاء والبيروقراطيين ومجموعات أخرى، وتقوم هذه الشبكة بالقيام بأعمال سرية الهدف منها المحافظة على علمانية الدولة التركية التي أنشأها كمال أتاتورك، وقمع أيّ أفكار أو حركات أو أحزاب أو أعضاء الحكومة التي من شأنها تهديد العلمانية.
ويمكن تعريف الدولة العميقة: “مفهوم شائع غير مُتخصص، يُستخدم لوصف أجهزة حاكمة غير مُنتخبة، وهذه الأجهزة تتحكم بمصير الدولة، كالجيش أو المؤسسات البيروقراطية المدنية أو الأمنية أو الأحزاب الحاكمة”.
· الدولة العميقة وخندق المؤامرة
يمكن يكون سبب وجود الدولة العميقة بهدف المؤامرات أو بهدف مشروع سري؛ كالمحافظة على مصالح الدولة كأنظمة الحكم، وكما أنّه يكون للدولة العميقة عدة عناصر موجودة في مؤسسات الدولة ومفاصلها المدنية والعسكرية والسياسية والإعلامية والأمنية، وهذه العناصر تعمل جميعًا باتجاه أهداف مشتركة، وتوجيه مؤسسات الدولة الرسمية وقراراتها السياسية باتجاه ما يريدون هم.
ان للدولة العميقة عدة مُسميات؛ كالدولة المتجذرة أو دولة بداخل دولة التي تُسمى لوصف بعض الأحزاب والجماعات التي تتصرف كأنّها دولة، لكن هذه الدولة ضمن حدود دولة مُعترف بها، أو الجهاز المخابراتي لدولة معينة، ومن الأمثلة الشائعة على مفهوم الدولة العميقة؛ الدولة العميقة في الولايات المتحدة، وتتمثل في وكالة الأمن المركزي واللوبيات، والدولة العميقة أو المتجذرة في تركيا، و الدولة العميقة في مصر المُتمثلة في الجيش وكبار رجال الأعمال.
· تفكيك الفكرة
عناصر الدولة العميقة يرتبط مفهوم “الدولة العميقة” بمفهوم وهو “دولة داخل الدولة”، ومعناه أنّه يوجد حكومة على رأس حكومة أخرى، وتُنتخب حكومة واحدة من قبل السكان، في حين أنّ الحكومة الأخرى لا تمر بأيّ عملية انتخابية، وتتألف الحكومة المُختفية من عدة عناصر، تتمثل في:
اولا: الموظفين الحكوميين السابقين الكبار من المدنيين والعسكريين: فهم يتفقون على تقاسم الثروة والامتيازات، والتناوب على السلطة، وتتم المنافسة فيما بينهم في بعض الأحيان.
ثانيا: رجال الأعمال: وهم يمثلون النخب الرأسمالية، ويحاولون استخلاص رأس المال، واحتكار الاستثمارات، واستمرار امتيازاتهم المالية.
ثالثا: عناصر من المثقفين والتكنوقراط: وهم من الأوساط الأكاديمية، ومن الأشخاص الذين يعرفون كيفية السيطرة على الدولة، وذلك من خلال عملية صياغة الدستور، ووضع القوانين والتشريعات الأخرى التي لديها أجندة خفية.
· الدولة العميقة والعنف
أحد أدوات عمل الدولة العميقة كي تحافظ على شبكات المصالح بداخلها هو استخدام العنف, في إطار حالات استثنائية خارج إطار القانون وهو ما يعرف بحالة الاستثناء، والتي يتم فيها اتخاذ العديد من الاجراءات الأمنية بدعوى الحفاظ على الأمن القومي من الخطر الخارجي, وأنه هناك دائما عدو مترصد لابد من التأهب دائما لصده عن ما يشكله للدولة من تهديد، وفي إطار ذلك تقوم الدولة بقمع المعارضين, وكل من هم لا يشعرون بالرضا عن أداء الدولة بشكل عام والسياسي بشكل خاص، ويكون الهدف هو إضفاء طابع قانوني على حالة الاستثناء.
وليس بعيدا أن يتم استغلال المؤسسات الاعلامية التي تسيطر عليها الدولة, لتبرير تلك الاجراءات, حتى يتم إضافة طابع قانوني لجميع التصرفات.
· الخداع منهج الدولة العميقة
تقوم الدولة العميقة أحيانا بانتهاج الحيل والخداع على المواطنين من أجل الحفاظ على النظام العام, ومنظومة القيم والمعتقدات المتعلقة بشكل مباشر أو غير مباشر للدولة, واستخدام الجهاز الاداري “البيروقراطية” يعد أحد أدوات الدولة العميقة، وهو فرع عن القانون من أجل تطويل العمليات الادارية على المواطنين, والتي من خلالها يعمل الموظف على الحفاظ على النظام العام, وعدم إعطاء للمواطن الفرصة بالاعتراض أو احداث خلل في تلك المنظومة.
أيضا تقوم الدولة بامتلاك أدوات الاقتصاد والتحكم في الاسواق من أجل الحفاظ على شبكات المصالح الاقتصادية, التي تستفيد بشكل ما أو بآخر ببقاء النظام العام على ما هو عليه, وفي سبيل ذلك تقوم بافتعال الأساطير والحكايات التي من خلالها تتحكم في مسألة العرض والطلب واتجاهات السوق.
· خلاصة القول
أننا أمام تكتل وشبكة معقدة من العلاقات والتداخل بين أجهزة ومجموعات عسكرية وأمنية واقتصادية وسياسية ومدنية, لمقاومة أي تغيير يطرأ من شأنه أن يهدد المصالح الحيوية التي يتوقف عليها وجود الدولة العميقة والقائمين عليها.
نستطيع أن نرى ذلك في أمثلة واقعية مثل في تركيا “الحفاظ على علمانية الدولة عن طريق الاغتيالات السياسية واحداث اضطرابات”، الولايات المتحدة الأمريكية ” الحفاظ على المصالح الاقتصادية والأمن القومي من خلال السيطرة على السوق داخليا، والحروب وقلب الأنظمة السياسية في دول بعينها خارجيا” ومصر ” الحفاظ على المصالح المختلفة المنتفعة من النظام العسكري مثل السيطرة على الخدمات الحيوية مثل الكهرباء والطاقة”، وغير ذلك من الأمثلة الكثير والكثير الذي يوضح تلك الحقيقة بشكل جلي.
إنها ليست دولة داخل الدولة, إنما هي الدولة نفسها.