يروى إن جحا اشترى كمية من الحامض حلو ، وجلس عصراً عند باب داره يتفرج على الناس الغادية والآتية ، وقد وضع كيس الحامض حلو بجواره يتناول منه واحدة كل برهة ، شاهد اطفال الحي المنظر وتقدم منه احدهم قائلاً : عمو جحا اعطيني وحدة ، فأبتسم جحا واعطاه ، فتجرأ بقية الاطفال وتقدم منه طفل ثاني وثالث ورابع يطلبون شيئاً من الحامض حلو وجحا يبتسم ويعطيهم ، فكر جحا مع نفسه ، هل اشتريت الحامض حلو لنفسي ام لكي اوزعه على اطفال المحلة ؟ ، قرر جحا أن لايعطي الاطفال شيئاً ويقول لهم : هنالك عرس في الشارع الذي خلفنا ، وهم يوزعون كميات من الحامض حلو والمصقول مجاناً ، طبعاً صدق الاطفال القصة وذهبوا واحداً تلو الآخر للشارع الخلفي ، فكر جحا مع نفسه وقال : الا يمكن أن تكون القصة حقيقية وإن هنالك عرس ؟ ، ادخل جحا كيس الحامض حلو الى المنزل وتوجه مسرعاً نحو الشارع الخلفي ، فلربما سيفوته العرس والوليمة التي ستقام فيه .
هذه قصة قديمة تداولتها الاجيال منذ قرون ، وهي تفسير لعبارة يكذب الكذبة ويصدقها ، وقصة العراق اليوم هي نفس قصة جحا ، فخريج الاعدادية الذي زور شهادة دكتوراة في الاقتصاد ، لن يصبح خبيراً بالشؤون الاقتصادية المحلية والدولية لمجرد تعليق الشهادة خلف مكتبه . وعامل البناء الذي حصل على كمية من الاموال (بغض النظر عن مصدرها) ، لايمكن أن يصبح مقاولاً لمجرد بناءه منزلين مليئين بالاخطاء الهندسية والفنية ، وباعهما لأناس لايعرفون شيئاً عن اصول البناء . ولاتكفي الصورة الجميلة لأي فتاة لتصبح مذيعة تلفزيون ناجحة ، ولايمكن لمن هب ودب أن يصبح فقيهاً أو عالم دين ، لمجرد حفظه بعض المسائل الفقهية وبعض من سور القرآن . كما لايمكن الزعم بأن لدينا حرية رأي في العراق لمجرد استخدامنا للستلايت والانترنيت ، ولن يصبح العراق دولة ديمقراطية لمجرد وجود برلمان لايرعى شؤون المواطنين ولايشرف على اعمال الحكومة ، ولاتنسوا بأن البرلمان كان موجوداً لدينا منذ ايام صدام حسين .
نحن نعيش اليوم في حالة وهم كبير تحت اسم الديمقراطية ، في حين إن مبادئ الثقافة الديمقراطية غير موجودة اصلاً لدى عامة الشعب العراقي . من منا يتقبل رأي زوجته بدون أن يتذمر أو يدردم ، من منا يتقبل رأي ابنه الصغير بدون أن يوبخه أو يصفعه ، من منا يتقبل الانتقاد لتصرفاته من قبل اصدقائه ولا يغضب عليهم ويقاطعهم ، من منا يستطيع الحفاظ على هدوء اعصابه ويرد على خصومه الحجة بالحجة ، وكيف يمكن للديمقراطية أن تنمو وتزدهر في العراق ، وكل عراقي يظن نفسه ظل الله في ارضه ووصيه على عباده . كل منا يحب أن يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من الشؤون العامة والخاصة ، ويريد من الناس أن يسمعوه ويطيعوه ويتبعوا ارائه السديدة ووصاياه الرشيدة ، ولكن لو نصحه احد بشئ تراه يغضب ويزمجر رافضاً أن يتدخل احد بشؤونه الشخصية ، ويزيد الطين بلة إن اغلب العراقيين غير مستعدين للأعتراف بأخطائهم وتحمل المسؤولية عنها ، فدائماً نتنكر لأخطائنا ونعلقها على شماعة الآخرين .
نأتي الآن على اصول الديمقراطية ، فاوربا الغربية التي نمت وازدهرت الديمقراطية على اراضيها ، تعترف صراحة بأن الديمقراطية هي نتاج العلمانية والدولة المدنية الحديثة ، ولا يمكن بناء نظام ديمقراطي حقيقي بدونهما .
تمتد جذور الدولة الاوربية الحديثة اصلاً الى التمرد البروتستانتي على سلطة الكنيسة ، حيث تقدم القس الكاثوليكي مارتن لوثر واحتج بجرأة وشجاعة على السلطات المطلقة المعطاة للبابا وكبار كرادلة الكنيسة وقيامهم ببيع صكوك الغفران ، وكتب احتجاجاته على جمود افكار ممثلي الكنيسة وتصرفاتهم الغريبة ، ضمن خمس وتسعون فقرة مليئة بالنقد اللاذع لحال الكنيسة الكاثوليكية السائد يومها ، وفي كانون الثاني عام 1518 ( قام اصدقاء لوثر بترجمة الأطروحات الخمسة والتسعين من اللاتينية إلى الألمانية ، وطبعت ثم وُزعت النسخ على نطاق واسع ، ما جعلها واحدة من أول أكثر الكتب انتشارًا في التاريخ ، وفي غضون أسبوعين انتشرت في مختلف أنحاء ألمانيا / نقلاً عن ويكيبديا فقرة مارتن لوثر) . سرعان ما أنتشرت افكار لوثر وحصل على عدد كبير من المؤيدين والمناصرين ، والذين حملوا لقب (المحتجون) أي البروتستانت .
كان تمرد عشرات الالوف من الالمان ضد الكنيسة ، وتأييد عدد كبير من القساوسة لأفكار مارتن لوثر ، معناه إن افكار واراء الكنيسة الكاثوليكية لم تعد صالحة لمواكبة الزمن والتطورات الحاصلة فيه ، ولقد كان التمرد البروتستانتي هو البداية الحقيقية للنهضة الاوربية الحديثة ، حيث إن هذا التمرد قد خلع صفة القداسة عن البابا وكبار رجال الكنيسة ، وبالتالي فلم يعد من حقهم التصرف كما شاءوا بدون حساب ، فهم بشر عاديون وليسوا معصومين من السهو والخطأ ، كما لم يمنحهم السيد المسيح (ع) حق الوصاية على الامة ليعتبروا انفسهم فوق بقية البشر .
ازدهر المذهب البروتستانتي وانتشر في وسط وشمال المانيا ، وامتد الى هولندا والدنمارك والسويد ، وبعد مرور قرابة مئة عام على ظهور المذهب لم تكن الكنيسة الكاثوليكية قد تقبلته أو اعترفت بوجوده ، بل ظلت تعتبر البروتستانت مبتدعين ضالين وخارجين عن الديانة المسيحية . وبسبب الكراهية المتزايدة بين الكاثوليك والبروتستانت ووجود اطراف تحرض على العنف لتحطيم الخصوم وابادتهم ، انقسم المجتمع الالماني على نفسه بشدة ، مما تسبب بأنفجار دموي عنيف استمر ما بين عامي 1618 و 1648 وسمي بحرب الثلاثين عام .
رغم إن الصراع كان قد ابتدأ في الاصل بين الكاثوليك والبروتستانت الالمان ، ودارت معظم معاركه على الاراضي الالمانية ، فلقد تقدم ملك بولندا بجيشه وقاتل دفاعاً عن الكاثوليك ، في حين دخل ملك السويد الحرب وقاتل مع جيشه دفاعاً عن البروتستانت ، وارسلت كل من ايطالياً والمجر كتائب من المرتزقة لمساندة هذا الطرف أو ذاك ، وارسلت فرنسا الكاثوليكية (ولأسباب سياسية صرف) ، اموالاً لمساعدة البروتستانت ضد الكاثوليك ، وكان تدخل الدول الاوربية في الحرب الاهلية الالمانية سبباً لأطالة امد الصراع ، وعدم قدرة الامراء الالمان على ايقافها .
بعد مرور خمس وعشرون عام على الحرب ، قررت معظم دول اوربا الغربية والوسطى انهاءها ، فلم يكن بأستطاعة اي طرف من احراز النصر النهائي فيها ، وقد تعبت الدول المتحاربة من تكاليفها الباهضة على دولهم ، لذا عقدوا اتفاقاً اولياً لوقف القتال وبدأوا بالتفاوض على شروط الصلح ، وسمي لاحقاً بصلح ويستفاليا نسبة للمقاطعة الالمانية التي وقعت فيها المعاهدات (راجع ويكيبديا فقرة صلح ويستفاليا) .
لقد اعترفت هذه المعاهدات لأول مرة بالبروتستانت كمذهب مسيحي رسمي رغم اعتراض الكنيسة الكاثوليكية على ذلك ، مما تسبب بأضعاف سلطة الكنيسة على الامراء والعامة ، الذين صار من حقهم الانشقاق عن الكنيسة واختيار مذهب مخالف لأفكارها وعقائدها . ولم يعد من حق الامير فرض دينه أو مذهبه على الشعب ، كما لم يعد الشعب يتمرد على امرائه لمجرد كونهم من مذهب مختلف عن مذهب اغلبية السكان في امارته أو مقاطعته .
لم تكن معاهدة ويستفاليا التي اعطت للناس حرية اختيار مذاهبهم المسيحية سوى اللبنة الاولى للديمقراطية الاوربية ، حيث تحرر العقل الاوربي من هيمنة رجال الدين المحترفين ، وانتشرت تعاليم البروتستانتية بتحرير نصوص الكتاب المقدس من التفاسير الكاثوليكية الجامدة ، فصار من حق كبار القساوسة اعادة تفسيرها ، والغت البروتستانتية كذلك البناء الهرمي للكنيسة الكاثوليكية والقدسية المضفاة على كبار رجال الدين ، وانزلت رجال الدين لاحقاً من ابراجهم العاجية وكسرت الحواجز بينهم وبين الناس ، مما جعل القساوسة البروتستانت اكثر قرباً من الشعب واكثر اندماجاً فيه .
لقد كان التمرد البروتستانتي مقدمة لتحرير العقل الاجتماعي الاوربي من المقدسات والمحرمات التي عانى منها طوال القرون الوسطى ، ولذا نجد إن مجموعة من كبار المفكرين الاوربيين الذين ظهروا في القرنين الثامن والتاسع عشر ، كانوا متأثرين بدرجة أو بأخرى بأفكار مارتن لوثر واطروحاته المضادة للكنيسة ، بل ونستطيع القول بأن عصر التنوير الاوربي لم يكن ليحدث بدون التمرد البروتستانتي .
بعد مائتي عام على توقيع اتفاقية ويستفاليا ، تمردت شعوب اوربا الوسطى والغربية على حكامها . فلقد نزلت مظاهرات شعبية حاشدة في فرنسا في مطلع عام 1848 ، تحتج على الفساد الاداري والسياسي وتطالب بحكومة دستورية منتخبة ، وسرعان ما امتدت المظاهرات والاحتجاجات نحو المانيا والنمسا وشمال ايطاليا . كانت جذور التمرد تكمن في الموسم الزراعي السئ عام 1846 ، والذي تسبب بهجرة الوف العمال الزراعيين للعمل في المصانع واستيطانهم في احياء فقيرة على اطراف المدن ، وهذا مما تسبب بالضغط الاجتماعي والاقتصادي على ابناء الطبقة البرجوازية المدنية ، فعبرت عن استيائها من فساد حكوماتها وعدم قدرتها على اعانة الفلاحين الفقراء ، ومنع نزوحهم من قراهم .
قام الصحفيون العاملون في الصحف الشعبية بالتحريض على المظاهرات ، واستلم ابناء الطبقة البرجوازية الوسطى والصغيرة المبادرة وقادوا العمال الصناعيين والحرفيين للأحتجاج ، وشارك عدد غير قليل من مثقفي فرنسا والمانيا والنمسا في المظاهرات والتحريض على قلب الانظمة القائمة . وكانت مطالبهم تتلخص في قيام مجالس منتخبة تشرف على اعمال الحكومات وكيفية انفاقها للمال العام ، ومنع رجال الدين من التدخل في شؤون الدولة ، فلقد عمل رجال الدين طوال قرون على تهدئة الناس ومنعهم من التمرد على حكامهم ، كما عملوا على توجيه انظار الناس نحو الجنة الموعودة للصالحين ، مانعين اياهم من التفكير في اوضاعهم الاقتصادية المزرية ، ولهذا اطلق كارل ماركس شعاره المشهور (الدين افيون الشعوب) ، في حين إن التفسيرات الهلامية المائعة للدين المسيحي والتي وضعها كبار رجال الكنيسة هي التي حولته الى افيون ، ولاعلاقة للدين بالموضوع .
كانت الحركة الديمقراطية منذ بدايتها عام 1848 مدنية علمانية ، قادها ابناء البرجوازيتين الصغيرة والمتوسطة ، ولم يكن للفلاحين أي دور فيها ، في حين ساهم العمال الصناعيين والحرفيين في الثورة وكان لهم دور كبير في تحمل اعبائها ، وقد سقط المئات منهم جرحى وقتلى برصاص الشرطة التي حاولت قمع المظاهرات بالعنف والقوة . عندما ادركت بعض حكومات وسط اوربا طبيعة الثورة وعدم قدرة الاجهزة الامنية على قمعها ، قررت التنازل ومفاوضة الثوار من جهة ، والاستعانة بالجيش واجراء استعراض للقوة من جهة آخرى , وكانت الطبيعة البرجوازية لقادة الثورة سبباً رئيسياً في توقفهم وقبولهم بنصف مطالب الجماهير ، فالبرجوازية المتوسطة والصغيرة كانت تعتمد بشكل كبيرعلى الطلبة والعمال والحرفيين لآنجاح المظاهرات ، وهؤلاء غير مسلحين ولا يستطيعيون الصمود بوجه القوات المسلحة والتي هي بمعظمها من ابناء الفلاحين . بالمقابل تنازلت الانظمة الاوربية المستبدة و قبلت بأجراء انتخابات ديمقراطية حرة ، وتحويل نظام الدولة ليصبح مدني علماني ، وقد بدأت الدول الاوربية في العقود التالية من ادراك اخطائها ، فقامت بتطبيق انظمة مجانية التعليم والضمان الصحي والاجتماعي ، وذلك لسحب البساط من تحت اقدام الحركات الاشتراكية ، ومنع البرجوازيين من قيادة العمال مرة آخرى .
دائماً كانت الحركات الديمقراطية تنمو وترعرع في المدن وليس في الارياف ، ودائماً كان قادة الاحزاب السياسية هم ابناء البرجوازيتين الصغيرة والمتوسطة ، وحتى اصحاب الافكار اليسارية الثورية وقادة الاحزاب العمالية ابتداءً من كارل ماركس وانتهاءً بلينين ، كانوا من ابناء البرجوازية وإن انشقوا عنها . ولايمكن بناء أي نظام ديمقراطي حقيقي بدون الدولة المدنية ذات النظام العلماني ، بشرط أن يكون قادتها من أبناء البرجوازية المدنية ومن لحق بهم وتبنى افكارهم من مثقفي الارياف ، لا أن يقودها من هب ودب من الناس .