يستخدم العلمانيون العرب والمسلمون مصطلح (التنوير) في أدبياتهم للدلالة ــ عادة ــ على الفكر الذي يعارض الفكر الديني وأصوله وموروثاته وتطبيقاته الشعائرية والطقوسية الاجتماعية، ومنها نموذج رجل الدين كما يسمونه؛ إذ يضعون التنويري إلزاما ضمن معادلة في قبال رجل الدين والإسلامي، والمؤسسات التي تمثلهما، وهما النموذج الأبرز للظلامي.
والتنوير الذي يعنونه هو المصطلح نفسه الذي ظهر خلال عصر التنوير (Enlightenment) في أوروبا في القرن الثامن عشر الميلادي، وهو امتداد جغرافي وتاريخي وفكري واجتماعي لعصر النهضة الأوروبية (Renaissance)؛ إذ انتصرت الأفكار العلمانية الوضعية، بكل تنوعاتها وتياراتها ومذاهبها الفلسفية والمعرفية والاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية، على الاستبداد السياسي السلطاني والاستبداد الديني الكنسي المسيحي والأعراف الأخلاقية الاجتماعية.
وقد صنع عصر التنوير في أوروبا مفكرون وفلاسفة أوربيون، ملحدون وربوبيون وعلمانيون، أمثال ديكارت ولوك وهيوم وسبينوزا وكانت وفولتير وروسو ومونتسكيو، وكان جميع هؤلاء مهووسين بمهاجمة المؤسسة الدينية الكنيسية المسيحية ورجالاتها، وصولاً إلى مهاجمة الدين نفسه، كمفهوم، وبكل مصاديقه وليس الدين المسيحي وحسب، ويعدون الدين ومؤسسته العقبة الوحيدة أمام تنوير العقول ونهضة المجتمع والدولة وأمام التقدم العلمي والفني والأدبي.
إلى هنا؛ يمكن أن نعدّ هذا الحراك الأوروبي الفلسفي والفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي؛ شأناً أوروبياً خاصاً؛ لكونه فعلاً عاماً تراكمياً لصيقاً بخصوصيات البيئة الأوروبية وصراعاتها الاجتماعية والدينية والسياسية، وبالصراع بين الكنيسة والمفكرين الملحدين والعلمانيين، وقد يكون مفيداً وصالحاً لهذه البيئة، من أجل إنقاذها من التخلف والاستبداد السياسي والديني، خاصة وأن المؤسسة الدينية الكاثوليكية ظلت منذ مئات السنين تصطنع طقوساً وتعاليم وسياقات دينية لا علاقة لها بالديانة المسيحية، وإنما برغبة رجالات الكنيسة في ضمان دورهم كسلطة حديدية، تتحكم بالدين والدنيا، على الرغم من أن الدين المسيحي هو ــ بالأساس ــ دين روحي لا يحتوي بذاته على تشريعات للمجتمع والدولة، وهو علاقة خاصة بين المسيحي والمسيح والرب.
بينما يختلف الدين الإسلامي اختلافاً بنيوياً مع الدين المسيحي الروحي الطقسي؛ إذ تستوعب تشريعات الإسلام كل شؤون الحياة الفردية والمجتمعية والدولة والسياسة والاقتصاد والعمل العسكري، وهي تشريعات تعبر عن ثوابت الإسلام وأصوله ونصوصه الأصلية، وليس من مصطنعات علماء الدين الإسلامي، وإن أخذ علماء الدين على عاتقهم التفريع من الأصول، بناء على أصل ديني إسلامي يفوّض المسلمين باستنباط الأحكام الشرعية الجديدة، عبر التفقه والاجتهاد في الأصول، وليس وفق استحساناتهم ورغباتهم. وبالتالي؛ يكون من المستحيل تطبيق معادلات عصر التنوير الأوروبي في بيئات المسلمين؛ بالنظر للاختلاف الديني من جهة، والاختلاف الأنثروبولوجي المجتمعي من جهة أخرى.
وفي حال تم إسقاط مبادئ عصر التنوير في أوروبا على واقع المسلمين؛ فسينتج عن ذلك، من وجهة نظر العلمانيين العرب والمسلمين، أن مفاهيم الأنوار والتنوير والتنويري تقابل مصاديق الظلام والتظليم والظلامية والظلامي المتمثلة في المبادئ الدينية والأعراف الأخلاقية والنظام السياسي الذي يستند إلى مصادر الدين، وفي المتدينين عموماً وعلماء الدين والإسلاميين خصوصاً، وهو ما لا يخفيه العلمانيون المتغربون. وهذا يؤكد الوهم الكبير الذين يعيشه الملحدون والربوبيون والعلمانيون ذوو الأصول المسلمة حين يطلقون على أنفسهم تنويريين، وعلى غيرهم ظلاميين.
في حين أن معايير التنوير، بالمعنى الحقيقي، وليس المعنى الاصطلاحي الغربي والتغريبي، هي معايير ضبابية ونسبية، كما هو الحال مع مصاديقها؛ لأن الواقع يكشف أحياناً عن علمانيين غارقين في الظلامية الإقصائية المتخلفة، مقابل إسلاميين تنويريين نهضويين، كما يكشف أحياناً عن رجل دين مسلم أو إسلامي ظلامي إقصائي متخلف. أي أن مصدر التنوير لا يكمن في العقيدة النظرية التي يحملها الإنسان، وإنما في صحة تطبيقه لها، ووعي مقاصدها النهضوية الإنسانية النبيلة، ووعي خصوصيات البيئة التي يعمل فيها.
ومن أجل التخلص من هذا الوهم والانفعال؛ ينبغي أن يتخلص العلمانيون المحليون من ضغط مصطلح التنوير ومعاييره الغربية على عقلهم الجمعي، وأن لا يصدِّقوا أنفسهم بأنهم تنويريون بالفعل، وأن يتركوا عادتهم وتلقائيتهم في إسقاط فكر النهضة الأوروبية وعصرها التنويري ومعاييره ومفاهيمه ومصطلحاته على واقع المسلمين، وأن يبتعدوا عن إطلاقات ما سمِّي بعصر الأنوار، ومعادلات صراعات العلمانيين الأوروبيين مع الكنيسة والمؤسسة الدينية المسيحية، لأن هذا الإسقاطات اللا موضوعية تعبر عن هزيمة نفسية ومعرفية.
ولا شك أن لكل واقع اجتماعي منظومته التي تنهض به وتنسجم مع مناخاته العقدية والفكرية والاجتماعية؛ فما يصلح للغرب ليس بالضرورة يصلح للمسلمين وللشرق، والعكس صحيح. أما العلماني الذي يعتقد أن المنظومات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي أنتجها عصر التنوير الأوروبي، تنفع لكل نقطة في الكرة الأرضية؛ فهو بحاجة إلى إعادة فهم لتلك المنظومات وظروف إنتاجها، وإلى إعادة فهم واقعه الاجتماعي العقدي والأخلاقي. وبالتالي؛ فإن التنوير الحقيقي لا يكمن في الإلحاد والعلمانية والليبرالية والعقلانية والتجريبية والمادية، ولا في التنكر للموروث الديني والسخرية من الأحكام الشرعية ومن عالم الدين، ولا في رفض الشعائر الدينية أو الطقوس الاجتماعية المنسوبة للشعائر.
ولن يكون الإنسان تنويرياً لمجرد أنه يعارض الفكر الديني والسلوك الديني؛ بل يتمثل التنوير في النهوض بالعقل الجمعي نحو السمو الروحي والأخلاقي والتقدم العلمي والإصلاح الاجتماعي السياسي والقانوني، وفي السير في ركب التحضّر الحقيقي وتحديد وسائل وأساليب هدف بلوغ الحضارة الأخلاقية المؤمنة.
ويمكن تلمّس هذه القواعد التنويرية الحقيقية في تعاليم الأنبياء والأئمة والصالحين والحكماء والفلاسفة التوحيديين، ليس بدءاً ببوذا وزرادشت وسقراط ومحمد وعلي والصادق وإخوان الصفا، وليس انتهاءً بالملا صدرا وطاغور والنورسي ومحمد باقر الصدر والخميني ومطهري ومهاتير محمد. وقد لا نتلمّس التنوير عند بيكون وديكارت ولوك وبريكلي وروسو وكانت وماركس وفوكو وعفلق والحصري والوردي وأركون وسروش، لأن كثيراً من أفكار هؤلاء ظلامية ومتخلفة ولا أخلاقية. وهو ما يدل مرة أخرى على نسبية معايير النورانية والظلامية والتخلف والأخلاق، ومصاديقها الفكرية والسلوكية، وهو اختلاف طبيعي، تبعاً للمدرسة الفكرية التي ينتمي إليها كل منا.