23 ديسمبر، 2024 5:27 م

الفرق الدينية التي ولدت من رحم ما يسمى بالإرث المقدس الذي يصعب التحرر منه جعلت لأصحابها الحق الذي يمكن لهم بواسطته التحكم بأفكار العامة من الناس دون مناقشة المسلمات الدخيلة التي لا يتأتى لهم التخلص منها إلا بشق الأنفس، وإذا ما أردنا الابتعاد قليلاً عن ذلك فإن هذا العمل يحتاج إلى مخلص يأخذ بيد الناس للخروج بهم عن الأفكار التي نشأت من الإرث الذي أشرنا إليه، وأنى لهم ذلك بعد أن بلغ السيل الزبى. من هنا أود القول إن المفاهيم التي ابتدعها أصحاب الفرق لا ترقى إلى نشر عموم اللفظ القرآني بل تجعل منه سجلاً خاصاً لا يخدم إلا رغباتهم التي يريدون من خلالها أن يجعلوا الأسباب التي نزلت من أجلها الآيات القرآنية أقرب إلى الموسوعة التي تشهد على صدق طريقتهم الجائرة عن السبيل ومن هنا تفتح الأبواب لدخول الشبهات التي تعطي أصحاب الشرائع الأخرى كامل الحق للنيل من الدين وجعله لا يرقى إلى المستوى الذي يجب أن يكون عليه وذلك بسبب جهل من أطلق عليهم مسمى العلماء الذين وضعوا القيد المخصص للعموم الذي يشير إلى مراد الله تعالى.
 
 فإن قيل: ماذا تريد أن تقول من خلال هذا الطرح؟ أقول: أريد أن أبين أن قوله تعالى: (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب) الرعد 43. لا يشير إلى شخص بعينه سواء كان ورقة بن نوفل أو عبد الله بن سلام ولا حتى علي بن أبي طالب “كرم الله وجهه” أما من أراد أن يجعل في الآية الكريمة بعض المزايا التي تشهد بأهمية الإمام علي فهذا يجعل النتائج ترفع من شأن أتباع الإمام من جهة وتخفض أمر الدين من جهة أخرى، من هنا يتحصل أن الوجه الأول يجعل الشهادة بنبوة محمد “صلى الله عليه وسلم” لا تصل إلى درجة الاعتراف إذا علمت أن السورة مكية، أما الوجه الثاني فيكون هو المطلوب إذا ما أثبتنا أن الشهادة التي أرادها الله تعالى لا بد أن تكون خالصة منه بمشاركة من عنده علم الكتاب الذي يحق له تبيان الأمر لمن لا يصدق بالمفاهيم القرآنية التي وردت في المتفرقات بصور مختلفة تجعل الناس الذين خرج النبي من بين أظهرهم أقرب إلى فهم الدليل.

وبناءً على ما تقدم يظهر أن ما جاء به النبي لا يمكن أن يصدق من قبل المشركين إلا بإقرار علماء أهل الكتاب، ومن هنا تظهر النكتة في آية البحث من حيث إشارتها إلى من عنده علم الكتاب، أي العلماء خاصة دون العامة من أهل الكتاب الذين لا يحق لهم أن يشهدوا بما لم يعلموا. فإن قيل: إذا كان الله تعالى هو الشاهد فما وجه شهادة علماء أهل الكتاب؟ أقول: يتم الغرض من خلال شهادة الله تعالى بعدة أوجه، كما في قوله: (وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً) النساء 79. إلا أن كثيراً من المشركين لم يتحقق لديهم صدق ما جاء في القرآن الكريم وهذا ما يجعلهم يبحثون عن دليل آخر، وهذه الطريقة أشبه بالسنة المتبعة إلى يومنا هذا على الرغم من الإعجاز الظاهر في الكتاب، ولهذا الغرض جعل الله تعالى شهادة علماء أهل الكتاب مرادفة لشهادته وذلك لتتم الحجة عليهم، أما الآيات التي تخاطب النبي “صلى الله عليه وسلم”  دون غيره فإن سياقها لا يشير إلى من عنده علم الكتاب، كما في قوله تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيداً) النساء 166. وكذا قوله: (قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم) الأنعام 19. وقوله: (وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين) آل عمران 81.

وبناءً على شهادة الأنبياء بين تعالى ما تفرع عليها من شهادة عيسى “عليه السلام” وذلك في قوله: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) الصف 6. وبالإضافة إلى ذلك فقد بين الله تعالى في متفرقات الكتاب المجيد ما يثبت صفات النبي “صلى الله عليه وسلم” في التوراة والإنجيل، فقال سبحانه: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي انزل معه أولئك هم المفلحون) الأعراف 157. وكذا قوله: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) الفتح 29. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:

الرأي الأول: قال الشوكاني في فتح القدير: (ويقول الذين كفروا لست مرسلاً) أي يقول المشركون أو جميع الكفار: لست يا محمد مرسلاً إلى الناس من الله، فأمره الله سبحانه بأن يجيب عليهم، فقال: (قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم) فهو يعلم صحة رسالتي، وصدق دعواتي ويعلم كذبكم (ومن عنده علم الكتاب) أي علم جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل، فإن أهلهما العالمين بهما يعلمون صحة رسالة رسول الله “صلى الله عليه وسلم” وقد أخبر بذلك من أسلم منهم كعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وتميم الداري ونحوهم، وقد كان المشركون من العرب يسألون أهل الكتاب ويرجعون إليهم، فأرشدهم الله سبحانه في هذه الآية إلى أن أهل الكتاب يعلمون ذلك. انتهى باختصار منا.

الرأي الثاني: يقول الفخر الرازي في أحد وجوه تفسيره لآية البحث: (ومن عنده علم الكتاب) المراد به: الذي حصل عنده علم التوراة والإنجيل، يعني: أن كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد “صلى الله عليه وسلم” فإذا أنصف ذلك العالم ولم يكذب كان شاهداً على أن محمداً “صلى الله عليه وسلم” رسول حق من عند الله تعالى. انتهى بتلخيص منا.

الرأي الثالث: قال ابن عجيبة في البحر المديد: (ويقول الذين كفروا) من رؤساء اليهود: (لست مرسلاً) ولم نجد لك ذكراً في كتابنا، ولا ما يشهد لك عندنا، قال تعالى: (قل) لهم: (كفى بالله شهيداً بيني وبينكم) فإنه أظهر من الأدلة على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها منكم، ولا من غيركم (و) يشهد لي أيضاً (من عنده علم الكتاب).. ويذكر ابن عجيبة منهم.. عبد الله ابن سلام، ومن أسلم من اليهود والنصارى الذين علموا صفته “صلى الله عليه وسلم” من التوراة والإنجيل وعلماء المؤمنين الذين عندهم علم القرآن، وما احتوى عليه من النظم المعجز، والعلوم الغيبية الدالة على نبوته “صلى الله عليه وسلم” أو علم اللوح المحفوظ. انتهى. وفيه: أن قوله: “علماء المؤمنين الذين عندهم علم القرآن” لا يتناسب مع أجواء الآية.

فإن قيل: ما وجه قوله تعالى: (وكفى بالله شهيداً) بعد قوله: (والملائكة يشهدون) الذي سُبق بقوله: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه) في الآية 166. من سورة النساء؟ أقول: جاء الترتيب هكذا لئلا يظن المتلقي أن شهادة الله تعالى لا تستقيم إلا بشهادة الملائكة، وهذا نظير قوله: (إنما الله إله واحد) بعد قوله: (ولا تقولوا ثلاثة انتهوا خيراً لكم) النساء 171.