23 ديسمبر، 2024 1:49 ص

ومن حب (بطانة الرئيس) ما قتل!

ومن حب (بطانة الرئيس) ما قتل!

تكتسب شهادات العاملين مع الحكام والرؤساء والوزراء وغيرهم قيمة كبيرة، لما تكشفه من خبايا وخفايا ما وراء الجدران والكواليس، وتبينه من طبيعة الشخصيات المسؤولة وسلوكياتها، مما ينفع وبشدة في الوصول إلى تصور عام حولها وتقييم تلك المراحل الزمنية بدقة أكبر.

وهذا كله لا يعني بطبيعة الحال تزكية الشخص المتحدث، فغالبية هؤلاء ممن يدافع عنه نفسه، ويحاول الخروج بريئاً من كل السيئات التي ارتبطت بالعهد الذي وجد فيه، كما هو حال كتّاب المذكرات.

شاهدت مؤخراً شهادات متواصلة للدكتور مصطفى الفقي، سكرتير المعلومات عند الرئيس المصري الراحل حسني مبارك، وضمن استضافات متعددة وافادات قدمها الرجل وحملت معلومات غنية، على الرغم من نرجسية صاحبها التي ينبغي وضعها في الاعتبار حين المشاهدة.

المهم، يتحدث الفقي في واحدة من تلك الوقفات عن التحول في شخصية الرئيس مبارك، بين حقبة الثمانينات وما بعدها، ويسرد وقائع تتشابه في مضمونها مع ما كان سابقاً، وما يقع حالياً، ولا نبالغ ان قلنا ما سيقع لاحقاً!!

هذا التحول في شخصية الحاكم بالغ الأثر، فهو ينتقل من مستمع جيد، وحريص على الانجاز، وزاهد في البقاء، إلى مستبد حالم، وماسك بالسلطة بكافة تفاصيلها، وعاشق حدّ المرض لكرسي الرئاسة الذي يحمل معه سحراً ووباءً ليس من السهل الفكاك او الشفاء منه!

وواحدة من أهم أسباب ما حدث ــ وكما يفيدنا الفقي ــ يكمن في البطانة التي توجد بتتابع الوقت والزمن وبالتدريج مع الرئيس، والتي تشكل حاجزاً عازلاً عما يحدث خارج القصر والمكتب والمنزل، وتستبعد كل صوت مخلص، أو عين صادقة للواقع ولما يحدث وتنقل له الحقائق دون تزويق، وكل ذلك من منطلق الحب للرئيس والحيلولة دون ازعاجه!

ولا يعلمون أن من الحب ما قتل… للأسف!!

ان هذا الموضوع ليس جديداً، ولعل هذا هو سبب التأكيد عليه، فتكرار الوقوع في نفس الخطأ غريب وعجيب، واستعادة الإخفاق وبامتياز وبراعة يحمل ألف علامة سؤال يعلوها الاندهاش.

ولو راجعنا أدبيات هذا الباب في تراثنا الإسلامي لوجدنا تركيزاً بالغاً على مسألة البطانة، بل نجد ان ابن الأزرق ( المتوفى سنة 896 هـ) في كتابه الرائع الماتع بدائع السلك في طبائع الملك، يجعلها ضمن أركان الملك وقواعد مبناه ضرورة وكمالاً وفي الأفعال التي تقام بها صورته ووجوده، فيقول: (اتخاذ بطاقة الخير لما يراد بهم، واجب في حفظ الملك أصلاً وفرعاً)، وغير ذلك كثير جداً جداً… اما التراث الانساني العام فهو يعزز هذا الجانب ويدعمه ويؤكد على ضرورته.

ان مصائب الأمم، وأزمات المجتمعات والدول، تحتاج إلى قائد متميز، وحاكم عادل، والأخير لا ينفك عن الحاجة إلى صاحب رأي سديد، ومخلص امين، يفك عنه حصار المقربين من المحبين المزعومين، ويجعله وسط الأحداث كما هي دون تجميل او تزييف.

وليتذكر كل صاحب سلطة مسيرة التاريخ العميقة الطويلة، والشواهد العديدة التي تؤكد ان كل حاكم سلم أمره وسلطاته إلى بطانة السوء كانت نهايته لا تقل سوءاً عمن يحيط به، ولمن لا يعلم او يقتنع فليتابع حديث الدكتور الفقي على سبيل المثال، والذي يربط ببراعة بين هذا التحول الذي أشرنا إليه أعلاه، وبين نهايات نظام مبارك، إلى درجة وصف حكمه بسنوات الفرص الضائعة!

فهل من معتبر… قبل ضياع السنوات وفرصها التي لا تتكرر؟!