18 ديسمبر، 2024 9:52 م

ومضات من الخطاب الحسيني.. مثلي لا يبايع مثله

ومضات من الخطاب الحسيني.. مثلي لا يبايع مثله

من الثابت عندنا أنَّ الخطابَ الصادر من المعصوم لا يمكن أنْ يكون مرحليًّا يُمثل مرحلة تاريخية معينة وينتهي بنهايتها ثم يبقى حبيس الكتب أو المؤلفات أو المكتبات أو مجرد كلمات يطلقها أهل المنابر، وإنَّما هو منهجٌ للأجيال يُنظم لها حياتها بكل مجالاتها ويرسم لها طريقة تعاطيها مع المواقف والأحداث ومدرسة تنهل منها المعارف وقدوة تقتدي بها

من هنا ننطلق في قراءة ودراسة وتحليل الخطاب الحسيني الذي أطلقه العاشق الثائر في محطات مختلفة من عروجه نحو المعشوق الاوحد، عروج التضحية والفداء والعطاء آخذين بنظر الاعتبار أنَّ الخطاب كان يختلف في التركيب والدلالة بحسب الظروف والحيثيات التي تحيط بمرحلة الخطاب…

يُمثل كلام الحسين في المدينة المنورة أول خطابٍ بدأ به الإمام الحسين مسيرته في نهضته العظيمة.

تشير الروايات إلى أن الإمام الحسين حين دعاه الوليد بن عتبة والي المدينة لم يأمن جانبه، فجمع فتيانه ورجاله من بني هاشم وأمرهم بالوقوف عند باب الوالي، وقال لهم إذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا الدار، ودخل الإمام على الوالي فوجد عنده مروان بن الحكم، ونعى إليه الوليد معاوية وطلب منه البيعة ليزيد، وبعد حوارٍ جرى بينهما أقنعه الإمام أنَّ بيعته لا يمكن أن تكون سراً، وحين يجتمع الناس سوف ينظر في الأمر، ولما أراد الإمام الانصراف تدخل مروان بن الحكم في الأمر وقال للوليد: «والله لئن فارقك الحسين الساعة ولم يبايع، لا قدرت على مثلها أبداً حتى تكثر القتلى بينكم وبينه، احبس الرجل ولا يخرج من عندك حتى يبايع أو تضرب عنقه»

لقد أغضب هذا الكلام التحريضي الإمام الحسين عليه السلام، فنهض قائماً، وقال: «يا ابن الزرقاء أنت تقتلني أم هو؟ كذبت والله وأثمت»

ثم يواصل كلامه عليه السلام: «والله لو رام ذلك أحد من الناس لسقيت الأرض من دمه قبل ذلك»

ثم يلتفت الإمام الحسين إلى الوليد فيقول: «أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»

لاحظنا أنَّ الحسين طلب ممن كان معه بالوقوف عند الباب وقال لهم إذا سمعتم صوتي قد علا فادخلوا الدار، لأنَّه كان لا يأمن جانب الطرف الآخر، وبالتأكيد أنَّ هذا الاجراء الحسيني لا يعني أنَّ الحسين كان خائفا من القوم أو من الموتُ لكنَّ الحسين في صدد أداء مهمة الهية تجرى أحداثها في كربلاء فكان لزاما عليه أنْ يمنع حدوث كل ما يعرقل اداء هذه المهمة العظمية التي ستحي الدين وتحافظ على ديمومته، فالحفاظ على شخصه في هذا الحادثة وما يليها حتى الوصول الى كربلاء الثورة والشهادة هو من أهم الواجبات التي ينبغي أنْ يؤديها، يضاف الى ذلك إنَّ مقتله في تلك الحادثة وداخل بيت الوالي سوف لا يأخذ التداعيات والأهداف السامية التي يتوخاها الحسين من حركته ولربما سيتم التعتيم عليه وتمر القضية مرور الكرام…

ثم يلتفت الإمام الحسين إلى الوليد فيقول: «أيها الأمير إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم، ويزيد رجل فاسق شارب الخمر قاتل النفس المحترمة معلن بالفسق، ومثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»

هنا بدأ الحسين بطرح الدليل العلمي الشرعي الأخلاقي على مكانة أهل البيت وفضيلتهم وأحقيتهم بالخلافة، والملاحظ من خطاب الحسين أنَّه اختار مفردات تشير الى قضية في غاية الاهمية والروعة وهي انتماء، بل تمثيل أهل البيت للنبوة والرسالة والرحمة والفتح والختام، فهو لم يقل: (إنَّا اهل بيت النبي) وإنْ كانوا هم كذلك وهذا غاية الفخر والشرف لكنه قال: « انا اهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة، ومحل الرحمة، بنا فتح الله وبنا يختم… »، لكي يبعد القضية عن أية تخندقات قبلية أو طائفية أو عرقية أو نحوها…

فمن أراد النبوة والرسالة والوحي والرحمة والفتح ومسك الختام فعليه أنَّ يتمسك بأهل بيت النبوة ومن ينوب عنهم بالدليل العلمي الشرعي الاخلاقي…

في مقابل ذلك يطرح الحسين الاشكالات العلمية الشرعية الاخلاقية على بطلان خلافة يزيد…

ثم قال الحسين: « ومثلي لا يبايع مثله »، وهذا تصريح واضح وصريح برفض البيعة ليزيد واعلان لنهضة الاصلاح الحسينية، لكن لماذا قال الحسين: « ومثلي لا يبايع مثله »، ولم يقل مثلا:( أنا لا ابايع يزيد)؟!!!

إنَّ الحسين حينما قال: (ومثلي لا يبايع مثله) إنَّما أراد أنْ يؤسس منهجًا يُعيد فيه الأمة الى المنهج الالهي العلمي الأخلاقي الإنساني للبيعة والاختيار، ذلك المنهج الذي تجلي في يوم الغدير، وبنفس الوقت أنَّه عليه السلام خطَّ ذلك المنهج بدمه الطاهر ليكون رسالةً للأجيال أنَّ مثل الحسين، أو مَن ينتمي للحسين، ونهج الحسين لا يبايع مثل يزيد، أو من ينتمي ليزيد، ونهج يزيد، فقال:( ومثلي لا يبايع مثله).

الى هنا فقد بين الحسين في هذه المناظرة العلمية أبرز القضايا الجوهرية المتعلقة بالخلافة والبيعة ومصير الأمة الذي يترتب على اختيارها وبيعتها،

لكن لماذا قال بعد ذلك: « ولكن نصبح وتصبحون وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة، فالحسين قد بين ذلك في هذه اللقاء »؟!!!!

إنَّ الحسين عليه السلام أراد أنَّ تجري هذه المناظرة العلمية أمام الناس لتطلع عليها وعلى نتائجها، لأنَّه يعلم أنَّ القوم سوف يكتمون ذلك، أو يُحرِّفونه، أو يدلِّسونه، أو يشوِّشون عليه، لأنَّه يضر بمصالحهم وعروشهم، وهنا ايضًا نشير الى أن الصباح الذي قصده الحسين عليه السلام هو صباح نهضته الاصلاحية التنويرية الذي بدأت خيوطه تتدلى منذ اللحظة الأول في مسيرته نحو الخلود والذي سيبزغ فجره في كربلاء، وسيمتد ضياؤه حتى قيام دولة العدل الالهي بقيادة الموعود المنتظر ووزيره عيسى المسيح.