تشترك الكائنات الحية مع الإنسان في عدد من الادراكات دون الخروج عن الترتيب الذي تقتضيه المهمة التي خلقت من أجلها، إلا أن النقطة التي يفترق فيها الإنسان عن المخلوقات الأخرى تكمن في قدراته المعنوية المتفرعة على إرادته وهدايته إلى الطريق الموصل، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) النحل 78. وكذا قوله: (ألم نجعل له عينين***ولساناً وشفتين***وهديناه النجدين) البلد 8-10. وبناءً على هذا فقد جعل الله تعالى في مسيرة الإنسان مجموعة من العقبات قد يُحدد في اجتيازها صلاحه أو عدمه، علماً أن هذه العقبات لم توضع لمنع الإنسان من الوجهة التي يقصدها وإنما وضعت لأجل الاختبار الذي يحقق له النتائج المحمودة التي يسعى من خلالها للوصول إلى غايته التي يؤمن بها، سواء كانت تلك الغاية أرضية عاجلة، أو خالدة ما دامت السماوات والأرض.
ولأجل تفصيل هذه المقدمة بطريقة أكثر بياناً يمكننا القول إن الطرق السالكة لوصول الإنسان إلى غايته تتفرع إلى فرعين أحدهما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمسيرة الأرضية والأخر يتمثل بما هو أبعد من هذه الحياة الدنيا، والذي بموجبه يحصل على نتائج أعماله المقدمة سلفاً والتي تضمن له المزيد من العطاء اللاحق، كما أشار إلى ذلك تعالى بقوله: (لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد) ق 35. وكذا قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) يونس 26. وربما يجتمع الطريقان مما يجعل استقرار الإنسان في الأرض مبنياً على النتائج الصالحة التي يطمح إليها ولهذا فقد يسعى للدخول في ركب الجماعة المؤمنة التي تكفل له التطبيق المنظم لقانون شامل يضمن سلامة الحياة الدنيا، كما بين الله تعالى هذه الحقيقة بقوله: (والأرض وضعها للأنام) الرحمن 10. وقوله: (ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون) الأعراف 96. وغير ذلك من الآيات التي تؤكد هذا المعنى، أما في حالة مجانبة هذا القانون فإن القانون الآخر سوف يقوم مقامه، مما يؤدي إلى إفساد القانون الأول دون الخروج عن يد التدبير، كما بين ذلك تعالى بقوله: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون) الروم 41. وكذا قوله:
(إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور) الشورى 33.
وعلى الرغم من ظهور هذه النتائج يجب أن لا نغفل فساد البصيرة التي لا تؤمن لأصحابها الرؤية الحقيقية، ولهذا فقد ينظر بعض الناس إلى الفساد وكأنه صلاحاً، وإلى الباطل باعتباره حقاً، حتى غلب ذلك على ظنهم مما جعلهم يتوقعون الخير حتى في رؤيتهم للهلاك، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم***تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين) الأحقاف 24-25. وهذا التصور لا يظهر على حقيقته إلا عند انتقال الناس إلى الدار الآخرة، كما في قوله تعالى: (لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق 22. وكذا في قول الإمام علي “كرم الله وجهه” الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا. من هنا يظهر أن انفكاك الفرع الأول عن الفرع الثاني قد يضمن للإنسان دخوله في ركب المسيرة الآنية إذا ما أخذ بأسباب الأفعال الموصلة إلى غايته سواء كان منشأها يعود إلى التزاماته الاجتماعية أو الالتزامات التي يجد نفسه قادراً على وضع الحلول لها والتي يكون مصدرها ناتجاً عن عدم انعتاقه من الجهة التي تُسير القانون المفروض عليه بغض النظر عن المسميات الحضارية لتلك الجهات التي تتفرع بموجبها التزامات أكبر إذا ما أراد الدخول إلى التكيفات الميدانية التي تدعو إلى التفكير الجمعي، أو التحصيل الكبير الذي يمهد للإنسان وسائل المشاركة في صرحه الشامل الذي تترتب عليه السيادة العامة التي ربما قد يخرج البعض من بين مكوناتها إذا كان اجتماعهم لا يحقق المطلوب.
وخير الأمثلة على ذلك يتجسد في التشديدات التي حصلت من قبل بني إسرائيل، والتي أشار إليها تعالى بقوله: (يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين***قالوا يا موسى إن فيها قوماً جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون***قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين***قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبداً ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون) المائدة 21-24. أما في حالة الأخذ بالمنهج المتبع لدى أصحاب الفرع الثاني، فهنا يمكن أن ينظر إلى المحصلات المفقودة
لدى أصحاب الفرع الأول بنظرة المثال الذي يعتمد على القوانين العامة، وذلك لإيمان أصحاب هذا الفرع بعدم تحقق المطالب التي تشفع بالدعاء ما لم يكن اعتمادهم على الأخذ بالأسباب مقدماً على التوسل والدعاء.
ومن أروع الأمثلة التي تجسدت في هذا النهج هو ما قام به أصحاب طالوت الذين أخذوا بالأسباب التي أدت بهم إلى اقتحام العقبة التي كانت أمامهم، وبعد أن تم الاقتحام جاء دور الدعاء والتوسل إلى الله تعالى بأن يفرغ عليهم صبراً ويثبت أقدامهم، وقد رسم القرآن الكريم هذه الواقعة بقوله تعالى: (ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين) البقرة 250. وكما هو ظاهر في الآية الكريمة فإن الدعاء قد جاء بعد أن برزوا لجالوت وجنوده فتأمل، وهذا من المصاديق الكثيرة التي بينها القرآن الكريم في اقتحام العقبة، ومن أهم تلك المصاديق ما ورد في قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة***وما أدراك ما العقبة***فك رقبة***أو إطعام في يوم ذي مسغبة***يتيماً ذا مقربة***أو مسكيناً ذا متربة) البلد 11-16. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآيات آراء أعرض لها:
الرأي الأول: قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: (فلا اقتحم العقبة) أي فهلا أنفق ماله الذي أنفقه في عداوة محمد، هلا أنفقه لاقتحام العقبة فيأمن، والاقتحام الرمي بالنفس في شيء من غير روية، يقال منه: قحم في الأمر قحوماً: أي رمى بنفسه فيه من غير روية، وقحم الفرس فارسه تقحيماً على وجهه: إذا رماه، والقحمة (بالضم) المهلكة والسنة الشديدة، يقال أصابت الأعراب القحمة: إذا أصابهم قحط، فدخلوا الريف، والقحم صعاب الطريق، ويضيف القرطبي: وقال الفراء والزجاج: وذكر (لا) مرة واحدة والعرب لا تكاد تفرد (لا) مع الفعل الماضي في مثل هذا الموضع حتى يعيدوها في كلام آخر، كقوله تعالى: (فلا صدق ولا صلى) القيامة 31. (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) البقرة 62. وإنما أفردوها لدلالة آخر الكلام على معناه فيجوز أن يكون قوله: (ثم كان من الذين آمنوا) قائماً مقام التكرير، كأنه قال: فلا اقتحم العقبة ولا آمن، وقيل هو جار مجرى الدعاء، ويضيف: (وما أدراك ما العقبة) قال سفيان بن عينيه: كل شيء قال فيه (وما أدراك) فإنه أخبر به، وكل شيء قال فيه (وما يدريك) فإنه لم يخبر به، وقال معنى (فلا اقتحم العقبة) أي فلم يقتحم العقبة، كقول زهير:
وكان طوى كشحاً على مستكنة……فلا هو أبداها ولم يتقدم
أي فلم يبدها ولم يتقدم، وكذا قال المبرد وأبو علي (لا) بمعنى لم وذكره البخاري عن مجاهد، أي فلم يقتحم العقبة في الدنيا، فلا يحتاج إلى التكرير، ثم يخلص القرطبي إلى قول ابن عمر من أن هذه العقبة جبل في جهنم، وعن أبي رجاء قال: بلغنا أن العقبة مصعدها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة، وقال الحسن وقتادة: هي عقبة شديدة في النار دون الجسر فاقتحموها بطاعة الله. انتهى كلام القرطبي، والأولى أن لا يؤخذ بالأقوال الأخيرة لأنها موضوعة في كتب التفسير.
الرأي الثاني: يقول ابن عاشور في التحرير والتنوير: الاقتحام: الدخول العسير في مكان أو جماعة كثيرين، يقال: اقتحم الصف، وهو افتعال للدلالة على التكلف مثل اكتسب، فشبه تكلف الأعمال الصالحة باقتحام العقبة في شدته على النفس ومشقته، قال تعالى: (وما يلقاها إلا الذين صبروا) فصلت 35. والاقتحام: ترشيح لاستعارة العقبة لطريق الخير، وهو مع ذلك استعارة، لأن تزاحم الناس إنما يكون في طلب المنافع، كما قال: والمورد العذب كثير الزحام، وأفاد نفي الاقتحام أنه عدل على الاهتداء إيثاراً للعاجل على الآجل، ولو عزم وجد لاقتحم العقبة.
الرأي الثالث: قال الجنابذي في بيان السعادة: (فلا اقتحم العقبة) قحمته في الأمر تقحيماً رميته فيه فجأة بلا روية فانقحم واقتحم وقحم في الأمر قحوماً، ويضيف الجنابذي: والعقبة: المرقى الصعب من الجبال والمراد بها عقبات النفس التي هي الرذائل التي لا مرقى أصعب منها، فإن العبور عنها وتخلية النفس منها والترقي منها إلى الخصائل أصعب كل شيء ولذلك أتى بالاستفهام التعجيبي لتفخيمها وفسرها بالعبور عن الرذائل والدخول في الخصائل بالاشارة الى أمهاتها، فقال: (وما أدراك ما العقبة***فك رقبة). انتهى.
فإن قيل: أشارت سورة البلد إلى مصاديق معهودة، فكيف تطرقت إلى مصاديق أخرى في البحث؟ أقول: ما ذكرته من المصاديق هو من باب الجري والتطبيق، وبتعبير آخر فإن الآيات القرآنية عندما تتعرض إلى موضوع معين فإنها تبين ذلك الموضوع بصورة تكون أقرب للمثال، كما في قوله تعالى: (يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) البقرة 189. علماً أن
للأهلة فوائد أخرى، وكذا قوله: (ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين) الملك 5. وهذا لا يعني أن فوائد النجوم تقف عند هذا الحد، ولذا بين تعالى أن للنجوم فوائد أخرى في قوله: (وعلامات وبالنجم هم يهتدون) النحل 16. ومنه قوله تعالى: (بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر فليأتنا بآية كما أرسل الأولون) الأنبياء 5. وأنت خبير بأن ما قيل من افتراء في القرآن الكريم وتكذيب النبي (صلى الله عليه وسلم) أكثر مما ذكر في الآية فتأمل.