للحديث عن وليد جمعة لابد للمتتبع من العودة الى البدايات الأولى والى مكوناته الفكرية الأساسية ومقهى ابراهيم في بغداد، أو كما يحلو للبعض تسميتها مجازاً بمقهى المعقدين. والتسمية هنا كما أعتقد إرتبطت بنوعية روادها، فمنهم مَنْ مشى على خطى جون بول سارتر ومنهم مَن أعجبتهم فكرة الوجودية التي كانت قد أخذت نصيباً كبيراً من عقول وإهتمامات أبناء ذلك الجيل، والتي أغرتهم فكرة الإنتماء اليها ومحاولة مواكبتها، تعبيراً عن رفضهم وتصديهم للمنظومة السياسية الحاكمة آنذاك، لاسيما وإن الكثير من المدارس الفكرية والفلسفية تلك، قد تزامن ظهورها وبروز العديد من الحركات الرافضة والساخطة على الوضع القائم، كإضرابات العمال في الدول الرأسمالية المتقدمة وثورة الطلبة في باريس والظاهرة الجيفارية وحركة بادر ماينهوف وأخواتها.
من ذاك المكان ومن تلك الأجواء كان لوليد جمعه ورهطه رصيداً واضحاً من التأثر، لذلك وجدت ظلالها وإنعكاستها في تعبيرات عديدة وبشكل خاص في شكل وبنية المُنتج الثقافي. هنا يبرز السؤال، هل تمكنوا من إيصال رسائلهم؟ هل تحولوا الى ظاهرة، نجحت في أن تجد لها مكاناً على المستويين السياسي والثقافي، أو على الأقل يمكن الإشارة اليها؟ أو تركت رصيداً مسموعاً من قبل المريدين والأتباع؟. في كل الحالات لسنا بصدد مناقشة هذا الموضوع ولا ضير من إحالته الى مناسبات أخرى.
ما أردت الوصول اليه ومن خلال تلك المقدمة السريعة، آنفة الذكر، هو إنَّ وليد جمعة، إن شِانا التحدث عنه كظاهرة، لم يكن متفرداً أو وحيداً فيما ذهب اليه، بل هو جزء من رعيل كبير وهام، عبر عن إحتجاجه ورفضه لتلك السياسات، والتي بدت تجلياتها وتمثلت بالكثير من الهزائم والإنكسارات والكوارث وعلى مختلف الصعد، سواء العسكرية أو السياسية بل حتى الأخلاقية وعلى إمتداد الساحات العربية، لا سيما وهو المهموم و(المتهم) بالميول القومية، خاصة مع بدايات تشكل وعيه السياسي، وليس آخرها ما يحدث لبلده العراق من تراجعات بل من زلازل وعلى أيدي صفوة منتقاة بدقة، من الأميين والجهلة وفي ظل تسترها بواجهات وذرائع، أعادت العراق ورمت به الى مجاهيل بعيدة من التخلف والإنحطاط حتى هوى تماماً.
أزاء هذا الوضع المتردي، لم يجرؤ على البوح إحتجاجاً ورفضاً له الاّ قلة قليلة، فكان وليد جمعه أحدهم بل من بين أبرز وجوههم، باسلوبه المتميز والساخر، والمتفرد أيضاً عن غيره. لامه البعض على لغته وقد يكونون في ذلك على حق، إن حسنوا النية. غير إنه في ذات الوقت فإن الوضع وما وصله من درك وتداعي، يستدعي بالضرورة تصدياً ووضوحاً بالمواقف أكثر بكثير مما هو مُعلن، فالقصة لم تعد مقتصرة على ضرورة مراعات البعدين الأخلاقي والجمالي في شكل اللغة المستخدمة على الرغم من أهميتهما، والهدف المرتجى أبعد وأسمى من كل تلك الإشتراطات، فالقصة، قصة وطن بل أوطان، مهددة بالفناء والتلاشي.
إستطراداً لما فات، فقد إعتبر البعض وأنا أحدهم، إنَّ لوليد جمعة القدرة الفائقة على التحشيد والتقاط اللحظة المناسبة، وفي توظيفها كذلك بإتجاه الهدف الذي يختاره وفي تحقيق الغرض الذي كان قد رسمه في مخيلته، وله في ذلك باعاً ملفتاً. وما بين الدعابة والجد نجح وليد جمعه في تمرير ما يريد قوله، وبشكل خاص أثناء بعض المنعطفات الهامة والسياسية منها على وجه التحديد، وقد يكون في ذلك متكأً على محبة الآخرين له، وعلى إستيعاب وفهم شخصيته على نحو لايخلو من التسامح.
ولعل من أفضل الوسائل التي كان يعتمدها في مناكفة الآخرين، هو إعتماده على الشعر العامي وعلى أقربهم الى قلبه ومن يحفظ له الكثير مما كتبه، الملا عبود الكرخي. ففي إحدى تحويراته الشعرية، وإرتباطاً بالصراعات السياسية التي شهدتها ساحة الشام في الثمانينات بين بعض أجنحة أحد الأحزاب اليسارية العراقية، وإنشطاراتها الطارئة والتي لم تدم طويلا، فقد دبَّ خلاف مستحكم بين بعض من رموزها وتياراتها، فما كان على وليد الاّ التسلل والدخول أو أدخَلَ أنفه عنوة في لجة الصراع الدائر بين تلك الأقطاب، ليخرج منها بشكل أوحى للبعض بأنه قد إنحاز لهذا الجانب دون الآخر، وراح هذا البعض يردد لازمة وليد: ساعة وكسر الزنـ وأنعل أبو فخـ …… الى آخر القصيدة المحورة. وحقيقة الأمر فإنَّ لوليد علاقات طيبة مع الجميع، ولم يكن في وارد تفكيره وهمه البتة، الميل الى هذا الجانب أو ذاك.
وفي حادثة اُخرى وفي ثمانينات الشام أيضاً فقد شهدت قيادة الحزب الشيوعي تغييرات عميقة في صفوفها، حتى وُصِفَ ما حدث بالإنقلاب الأبيض وربما الأسود كما يحلوللبعض تسميته، حيث طرد نصفه النصف الآخر، وكان من بين المبعدين ماجد عبدالرضا، عضو اللجنة المركزية، ولم تشفع له آنذاك ما كان قد كتبه ونشره في جريدة الحزب المركزية وقبيل إبعاده نهائياً بفترة قليلة، مقالاً مطولاً، وقف فيه وبتفصيل على موضوعة خطرة، جدد فيها موقفه الثابت من الحزب وولائه الأبدي له ومهما تحدث من منعطفات وتبدلات لاحقة أو من أخطاء كانت قد رافقت مسيرته، أسماها على ما أظن المطلق والنسبي أو نحو ذلك.
هذه اللحظة، أي اللحظة التي كتب فيها ماجد مقالته وما حَوَت من تنازلات، إلتقطها وليد جمعة على نحو تهكمي، فكتب ما نسميه بالشعر الشعبي بالزهيرية، وعمادها الجناس بين نهايات الكلمات من كل بيت شعر، أي تأتي كلماتها الأخيرة متشابهة بل متطابقة بكل حروفها مع الحرص على إختلاف معانيها، وكانت تلك الكلمة التي اختارها وليد جمعة لتكون جناساً هي (ونسبي) وليعذرني القارئ على عدم تمكني من تذكرها. بهذه المناسبة أي بمناسبة كتابته لهذه الزهيرية لنقل، ولغيرها أيضاً فقد كان لوليد جمعة أن يصبح أو يتحول الى مشروع شاعر شعبي، غير انَّ أبو عادل ويقصد هنا الشاعر الكبير مظفر النواب، قد قطع عليه أو قضى على رغبته تلك لما يتميز به من شاعرية فذة. ربما يكون وليد جمعة قد مرَّرَ هذا الرأي من باب الدعابة ولم أوفق في حينها التقاط جديته من مزاحه وأضاع عليَّ القول الفصل.
في مرحلة لاحقة من معتركه السياسي وفي تسعينات القرن الماضي ورغم حذره الشديد من التعاطي المباشر مع بعض الأحزاب والحركات السياسية، فقد حسم وليد أمره وقرر الإنضمام الى هيئة تحرير جريدة الوفاق الوطني، لسان حال حركة الوفاق التي كان يتزعمها أياد علاوي، إضافة الى أسماء اُخرى. فكان لوليد أن كتب وعلى أحد أعمدة صفحتها الأخيرة البارزة، مقالات عدة، غير انه لم يطل به المقال هناك، ألِخلافات سياسية مع القيمين على الجريدة؟ أم هي لنزوة من نزواته العابرة؟ أم لأسباب اخرى غير معروفة. المهم مافي الأمر هو ما كتبه وتحت عنوان بارز أسماه: يصير من لندن تجي مجارية، والكلمة الأخيرة منحوتة أو لنقل وبعد إجراء بعض التحوير عليها من كلمة المكاري أو الكروة، سيكون معناها دفع أجر معين مقابل أداء خدمة، وهنا وبحسب رغبة وليد فقد أرادها أن تطلق على من يقود الحمير والعلم عند صاحب الرأي. في كل الأحوال فالعنوان مستعار أيضاً من ملا عبود الكرخي.
كان وليد يهدف من خلال تلك المقالة الى القول بأن مَنْ سيحكم البلاد بعد إسقاط النظام السابق وبالإعتماد على بعض الأخبار المتسربة وما كان قد رُسمَ لهم في مراكز القرار الدولي ذات الصلة، مجموعة من (المجارية)، أي ممن ليس لهم المقدرة والكفاءة على إدارة دفة البلاد، غير انه فاته أن يذكر بأن عاصمة الضباب، لم تكن وحدها من إحتكرت تخريج تلك الدفعة من العملاء الأشاوس، بل شاركتها في ذلك الكثير من العواصم الغربية والعربية، ولو إكتفى هؤلاء بعلاقتهم بأبي ناجي لكان بعض الشرِّ أهون. السؤال هنا هل هي مفارقة أو قدر أو إستباق من وليد لقراءة ما سيحدث لبلده العراق. لا أظن ان بإمكاننا الجزم بذلك، غير انه يمكن القول: لقد تحقق ما كان قد نشره.
هذا هو وليد جمعه أو بعض منه، فكما اختار في غربته التمرد على الحزب الواحد، اختار التمرد ايضاً على الحزب القائد للمعارضة. حاول البعض أن يمشي على خطاه غير انه تعثر مع بداية خطواته الأولى، فظل وحيداً في تمرده كما عاش ومات وحيدا. ربما لم تصل رسالته التي بشَّرَ بها على نحو صحيح، لذلك إنقسم أصدقائه في تقييم شخصيته الى نصفين أثناء حياته ولا أظنهم سيفعلون ذلك بعد رحيله، في كل الأحوال ستبقى وديعته رهن النفوس الزكية.
نم هنيئا، طيباً في مثواك كما كنت طيبا في حياتك.