7 أبريل، 2024 5:19 ص
Search
Close this search box.

وليد بقلم وليد

Facebook
Twitter
LinkedIn

وليد :– شخصية عصامية محبوبة، ذو خلق رفيع، متواضع، كريماً سخياً، عرف عنه الكياسة ورجاحة العقل. لم يخرج في حياته العملية التي تجاوزت الـ (كذا) سنة، عن دائرة ضيقة سجن نفسه فيها اهتماماً وتفكيراً، هواية وعملاً. وبقدر ما حولها الى صومعة لا يغادرها، لا بالجسد ولا بالروح، اصبح العالم الواسع خارجها بحراً للظلمات، غريباً ومجهولاً مرفوضاً.
اتسمت حياته بالجدية، وطبعت سلوكه، فهو جاد جداً بعمله، وبكل تفاصيل حياته، لا يعرف الكسل ولا يتهاون فيه او يسمح به، وقد تدفعه جديته واخلاصه المتناهي في كثير من الاحيان الى الصدام، ولا يبالي بالنتائج مهما كانت، كما ان جديته الزائدة تجعله عصبي المزاج، كثير الاعتداد بنفسه.
اتصف بنكران الذات، لا يتنكر لعلاقاته الانسانية مع تغير الزمن وتبدل الاوضاع، عرف عنه بالذكاء وسرعة البديهية والفراسة وقراءة دواخل البشر ولاسيما المحيطين به، لا يجامل في الحق، قوي الارادة والتصميم، وقوي الشخصية والحجة.. لا يتردد ولا يتراجع فيما يراه صواباً، بعيد عن التعصب المذهبي والفئوي والعشائري.. يستأنس بآراء الآخرين، نزيه بالمطلق، لم تسجل عليه طيلة حياته سوى الامانة والصدق والتفاني والتواضع ، يجيد اللغتين الانكليزية والفرنسية ، وترجم عنهما العديد من الكتب والدراسات والمقالات ..حاصل على شهادتي ماجستير ،الاولى في اللغة والادب الفرنسي ، عن الاستشراق العسكري الفرنسي ، والثانية في التاريخ الحديث عن صراع التيارات الفكرية في الوطن العربي ..
نشأ في بيئة عائلية متحررة بتفكيرها لكن ضمن اطار من المحافظة، فتشبع بالقيم الاخلاقية العالية، ترعرع في بيت تحولت جدرانه الى رفوف مكتبة.. تناوب عليها هو والوالدان للقراءة، وكانت الكتب على انواعها تتدفق ليتخاطفها هو والوالدان، وكأنها خبز الحياة. وكانت له مكتبته الصغير الخاصة به مثل كل واحد من افراد الاسرة، وكانت المكتبة تنمو باستمرار وتمتلئ بكتب تتناسب مع سنه الى ان وصلت الى اكثر من (15000 الف ) كتاباً، اي انه اعتاد القراءة منذ نعومة اظفاره، وهكذا نمت فيه حب القراءة ثم الكتابة تدريجياً.
مثقف ذو معرفة واسعة، في التاريخ والفكر واللغات والادب.. جمع في شخصيته الكاتب، والباحث، والمترجم، والمؤرخ، والناقد.. من دعاة التجديد والتحرر، والانفتاح، والتوجه نحو الحضارة العصرية.
عالمه الصغير الذي لم يغادره منذ ان تأهل للحياة العملية هو عالم القلم، اي ان عالم الثقافة وعالم الصحافة والبحث والترجمة.. وقد اشتبكت هذه العوالم وتوحدت واسقطت ثنائيات الوسيلة والغاية او الاداة والهدف، فكل منها مطلب ومسعى في الوقت نفسه ويستحق الجهد نفسه.
عالم الكتابة الذي حبس نفسه فيه عالم واسع يشمل المقالة الصحافية والدراسة وترجمة الكتب.. هذا هو عالمه الذي اعتز به، كان هواية قبل ان يصبح مهنة، وكان حباً دائماً ولم يكن نزوة عابرة، وكان انتمائه اليه طوعاً وشرفاً ولم يكن واجباً مفروضاً.
ـــ 1 ـــ
لم يكن وليد ومازال يعيش في العراق بروحه بل بجسده فقط، وكان يعاني كثيراً من طبائع العراقيين وسلوكياتهم بسبب شخصيته المتميزة والمختلفة عنهم، ونتيجة لهذه المعاناة، قرر ان يعتزل الناس في منزله، بعيداً عن محيطه الاجتماعي والوظيفي بعد ان ضاق بكل شيء حوله.
ضاق بأسرته التي عجز عن التعايش معها، على الرغم من رقيها الثقافي وعلو انحدارها الطبقي ومستواها الاجتماعي، وضاق بأصدقائه الذين لا يعرفون معنى الصداقة، وضاق بالشارع والارصفة والاحياء البغدادية التي تريفت بما حوته من سلوكيات وممارسات تعكس غباوة الطبع وانعدام الذوق وبلادة الحس.
لم يكن ذلك كله لعيب فيه فقد كان ذو خلق حميد وطباع فريدة.. كان يحب اتقان العمل والوفاء بالوعد والصدق في القول والثبات على المبدأ وفوق هذا كان كريماً ومعتدلاً في مواقفه تجاه الآخرين، وميزة الاعتدال وانصاف الآخر والثبات على المبدأ، تعد نادرة بين العراقيين اليوم والمثقفين منهم خاصة.
من هنا كانت تستفزه كثيراً الشخصية العراقية التي تتميز بالضعف والتلون والهشاشة والتسيب وضيق الافق وضيق الصدر ايضاً، بالاضافة الى اميتها الثقافية وميلها الى الشهوات، وذلك غير ما يشاع عن العراقيين او غير ما يصوره الاعلام العراقي المضلل.
كانت ومازالت مهنة وليد هي الكتابة والترجمة وقد حملته هذه المهنة الكثير من المتاعب والآلام، متاعب مع الجهات الرقابية التي وضعته تحت المراقبة والمتابعة ورصد كل ما يكتب وينشر بشكل مستتر ومتاعب مع خصومه وحساده من المثقفين (تجاوزاً) الذين لم يستطيعوا تحمل ارائه ومواقفه.. وحتى متاعب مع اصدقائه ومعارفه الذين كانوا يخافون منه ويفهمون اراءه على وجه الخطأ.
كتب وليد العديد من المقالات والدراسات ولم يجد صدى لكتاباته. كتب في السياسة والتاريخ والفكر.. فكسب المزيد من الحساد والاعداء.. انتقد سيادة العقل الروائي وسيطرة عقل الماضي والحالة المذهبية السائدة وسط مجتمعه العراقي على مستوى السنة والشيعة.
كان وليد يتمتع بميزة هامة ونادرة بين العراقيين وهي امتلاكه ارادة حرة وعدم التزامه بسلوكيات الوظيفة المتخلفة.. فقد كان متفرغاً للكتابة والترجمة ولا يهتم بالمال، وفوق ذلك، كان حر الحركة ينتقل بين زوايا بغداد يرصد ما يجري من حوله ويدون مشاهداته ويسجل ملاحظاته.. ولم يكن يملك رصيداً في البنك او سيارة او عقار او حتى زوجة وأسرة.. من الممكن ان تشكل ضغطاً عليه.
كل ذلك جعل العديد من اصدقائه يحسدونه على ما يتمتع به من حرية وما يملك من ارادة حرة لا يملكونها هم او لا يستطيعون امتلاكها.
وهذه الميزة كانت تتيح له القدرة على الصمود في وجه الضغوط ، ومن جهة اخرى كانت تشكل معوقاً امام حساده وكارهيه الذين كانوا يبحثون له عن ثغرة او نقطة ضعف كحال غيره من المثقفين الذين يعملون في وسائل الاعلام المقروءة والمرئية التابعة لهذه الجهة او تلك، الذين كانت تشكل الوظيفة نقطة ضعف بالنسبة لهم وثغرة تتيح لهذه المؤسسات استغلالها في الضغط عليهم وترويضهم بواسطتها.
وقد ارتبط الكثير من المثقفين والسياسيين العراقيين المعارضين والمؤيدين للحكم سواء قبل 9/نيسان او بعده، بالعديد من الجهات الخارجية، وتربحوا من وراء هذا الارتباط. اما وليد فلم يكن موضع اهتمام الجهات الخارجية او الايادي الخفية التي ترسم خارطة مسار البلد من خلال توظيف هؤلاء النكرات والامعات، لكونه لا يصلح لتحقيق اغراض هذه الجهات، فقد كان يملك شخصية فكرية مستقلة تجعل من الصعوبة ترويضه ليعمل لحساب جهة معينة او يتبنى فكرة او مبدأ دون ان تكون له قناعة به.
لقد دخل وليد الآن منتصف الخمسينيات من العمر، وادت به حالة المعاناة والتجارب الطويلة، بالاضافة الى الآلام التي عاشها وسط مجتمعه الى التوقف للمراجعة، المراجعة مع نفسه، والمراجعة مع واقعه.. من هنا قرر الاعتكاف لاعادة قراءاته حول العراق والعراقيين. وكانت تلك هي المرحلة الاخيرة من رحلة وليد هذه في العراق وبين العراقيين والتي وصل فيها الى رؤية تبدو متطرفة في نظر البعض، وتبدو موضوعية في نظر آخرين.
ـــ 2 ـــ
اصبحت ايام وليد في بغداد من اصعب ايام حياته، اذ اشتدت عليه ابتلاءات ما كان يجري حوله من صور الفساد والانحطاط واللامبالاة.. وبدأ يشعر وجوده في العراق لم يعد له اهمية مما اوجب عليه التفكير بسرعة الرحيل عنه قبل ان يجن او يلقي حتفه على يد احد السفلة وغلمان الاجرام، او يلغي عقله ويقبل العيش على الفتات كبقية العراقيين في ظل حكام اغبياء بليدي الحس، لا يبالون بهم ولا يعنيهم امرهم، وهم يعيشون في واد آخر، ومن طول فترة حكمهم تصوروا ان العراق والعراقيين لن يعيشوا من دونهم.
والحاكم هذا، اصبح يمثل عبئاً كبيراً على ميزانية الدولة بسبب نفقاته الباهظة خاصة ما ينفق من اجل حمايته وراحة حضرته وما ينفق اكثر من اجل الحفاظ على صحته المتدهورة وقد اصابت لعناته جميع طبقات العراقيين عدا انصاره من الحثالات.
وفي ظل هؤلاء الحكام البليدي الحس والعديمي الفهم، انهارت الشخصية العراقية في زمانهم انهياراً لم يحدث للعراق من قبل وهو ما يشير الى ضعفها وهشاشتها. ويظهر ذلك بوضوح من خلال صور الجريمة التي تجري على ساحة المجتمع العراقي اليوم.
ومن خلال التفاوت الطبقي الرهيب الذي حول المجتمع العراقي الى طبقتين لا ثالث لهما:- طبقة عليا غاية في الترف والثراء، وطبقة سفلى فقيرة مسحوقة. ومن خلال الفضائح التي تنشرها وسائل التواصل الاجتماعي مابين الحين والآخر.. ومن خلال الحفلات الماجنة التي يقيمها المترفون وينفقون فيها ملايين الدنانير.. ومن خلال نهب البنوك الوطنية وسرقة الآثار وتهريب المخدرات.. ومن خلال استيراد المواد الغذائية الفاسدة للشعب الجائع.. ومن خلال استيراد النفايات والبالات بانواعها.. ومن خلال الاتجار بالنساء في مجال الاعلانات والرقص الماجن والدعارة المنظمة والسائبة ومن خلال الاتجار بالاطفال.. ومن خلال السفهاء وتسليط الاضواء عليهم واجهاض العقلاء وتدمير الكفاءات.. ومع ظهور الصحف غير الرسمية والقنوات الفضائية.. هرع كل من هب ودب نحوها من باب اكل الخبزة واصطياد الرزق او خطفه كما هو حال العراقيين دائماً.. وكثرت السفاهات والفضائح على صفحات هذه الصحف وفي دائرة هذه القنوات التي تم صبغها بصور المجون التفاهة واللهو.. وازدحم العراق بالمئات من المطربين والمطربات والراقصين والراقصات الذين هرعوا نحوه من اجل ان يثبتوا وجودهم فيه.
وازدحم ايضاً بالكثير من مدعي الثقافة والكتابة ولصوص الكتب والاعمال الفنية المنتشرين في الساحة الثقافية والفنية، والعديد منهم اصبح من الاسماء اللامعة في مجال الكتابة والصحافة والسينما والمسرح والموسيقى اليوم.
ووصل الامر بـ وليد، الى ان يصاب بحالة من الاكتئاب، واعتكف في بيته لا يخرج الا نادراً لشراء حاجاته الضرورية، وتجنب الخروج خوفاً من الاصطدام برجال السيطرات الذين ينصبون متاريسهم بالطرقات ويستوقفون المارة ويحققون معهم بطريقة استفزازية.
ورجل الامن العراقي يتعمد اهانة المواطن وهو متيقن بخنوعه وعدم وجود رد فعل من قبله، واذا ما حدث ووجد من يعترض عليه فانه سرعان ما يفرغ عقده فيه وينتقم منه بالقبض عليه لتأديبه كي يسير بعد ذلك مع القطيع بانتظام.
لقد رأى وليد الكثير من المعممين الجدد التافهين، قد اصبحوا من اصحاب الملايين ويعيشون في قصور وفي عصمتهم العديد من النساء.. والعديد من المثقفين من الحزبيين والمستقلين لم يعد لهم دور سوى الكلام والقيل والقال.. والكثير من السوقة والاراذل قد تحولوا الى مطربين مشهورين على الرغم من افتقادهم للصوت والصورة.. منهم عامل بسيط كان يعمل في دكان لا يجيد القراءة والكتابة ولا يفقه في اي شيء واصبح اليوم محل تهافت الصحف والقنوات الفضائية.
والعجيب ان العراقيين الكادحين الذين يشكون الفاقة والحرمان هم الذين يرفعون هؤلاء السوقة والاراذل ويحولونهم الى سادة وكبراء بالتهافت على اغانيهم الهابطة والتصفيق لهم ليل نهار وهم في حقيقة الامر يحسدونهم على ما هم فيه من ثراء وترف وهو ما يؤكد السنة التاريخية للعراقيين الذين يصنعون جلاوزتهم بأيديهم ثم يلعنونهم.
ولقد رأى وليد في العراق ان جميع الطبقات العليا في العراق اليوم من الاثرياء واصحاب الملايين والمليارات وهي تتكون من رجال الاعمال والمسؤولين ورجال الامن والجيش والسياسة واعضاء مجلس النواب وكبار المطربين والممثلين والراقصات..
قطاع السياسيين واعضاء مجلس النواب وكبار الراقصين والطبالين.. جمعوا اموالهم عن طريق الابتزاز والمصروفات السرية وعطايا الحكومة.. ورجال الامن والجيش استغلوا نفوذهم في تمرير الصفقات غير المشروعة وتهريب المخدرات.. بالاضافة الى ما يتلقونه من مكافآت.. ورجال الاعمال فتحت لهم الابواب على مصارعها للصفقات المشبوهة والنصب على البنوك وتهريب الاموال للخارج واقامة المشاريع الوهمية خاصة من كان يعمل منهم لحساب هذا الامعة او ذاك النكرة من الجلاوزة..
والممثلين الذين كانوا يطلق عليهم في الماضي اسم (شعار) وهم موضع احتقار الناس ولا تقبل شهادتهم في المحاكم ولا تقبلهم العائلات كأزواج لبناتهم.. اصبحوا من علية القوم واجورهم ملايين الدنانير..
لقد تبين لـ وليد انه لا امل في تغيير العراق، واقتنع بأن الازمة في العراق هي ازمة شعب وليست ازمة حكم. وقد توصل لهذه النتيجة من خلال مواقف العراقيين وسلوكياتهم ومن خلال انهزام الشخصية العراقية عبر التاريخ، ذلك الانهزام الذي اتاح للاجنبي ان يطمع في العراق ويستعمره ويستعبد شعبه، واتاح للغريب ان ينتج فيه ويعلو بينما اكتفى العراقي بان يفلح الارض ويعتكف بجوار النهر، الامر الذي جعل الغزاة والغرباء يستخفون به ولا يضعون له حساباً بل تجاوزوا هذا الحد واستعبدوه وألهبوا ظهره بسياطهم كما فعل الصفويون والعثمانيون والانكليز وذيولهم حتى الآن.
ـــ 3 ـــ
كان وليد يتوقف كثيراً امام العديد من التساؤلات التي تدور في اذهان العراقيين ولا يجدون لها اجابة:
كيف يدار العراق وهو يعيش هذا الكم من الفوضى والتسيب؟
كيف هو صامد وباقي على الخارطة؟
ولماذا حال العراق والعراقيين هكذا لا يتغير؟
ولماذا سبقتهم وتفوقت عليهم الكثير من البلدان التي لا تمتلك نصف او ربع امكانياتهم؟
ولماذا يشعر العراقي بالغربة في وطنه؟ ولماذا ينتهك فيه على الدوام؟ ولماذا لا يرتقي حاله الى الافضل؟
ولماذا يشعر انه في سجن كبير ويرنو ببصره دوماً الى الخارج؟
ولماذا يتعمد تغييب نفسه عن الواقع عن طريق الانغماس في اللهو وسائر انواع المسكرات والمخدرات..؟
ولماذا هو كثير الكلام قليل العمل؟
ولماذا يبدو امام المراقب وكأنه لا يعاني شيئاً وحاله على مايرام؟
ولماذا يرتكب مثل هذه الجرائم البشعة؟
ويتوقف ايضاً امام الكثير من الكلمات التي تجري على ألسنة العراقيين وتتردد في وسائل اتصالاتهم بانواعها.. دون الاشارة الى معنى محدد لها.. والاغرب ان العراقيين لا يعرفون ما هو المقصود بهذه الكلمات، ورغم ذلك يرددونها كالببغاوات.. من هذه الكلمات:- انضرب بوري، اكله لليدة، انطاهيا ترس… وهناك كلمات اخرى اكثر غرابة يتداولها الجيل الجديد وهي تظهر بوضوح من خلال موجة الاغاني الشبابية ومعظم كلماتها من ابتداع العراقيين.
وتداول مثل هذه الكلمات بين العراقيين خاصة في الاغاني يظهر بوضوح انهم من السهل عليهم ان يضحوا بلغتهم. والمراقب لهذه الاغاني لا يجد فرقا بين ما تعرضه وما يجري في النوادي الليلية ولا يجد سوى الاحضان والقبلات والرقص والغناء والجريمة وسوء الخلق والعقد النفسية.
وما اكثر المفاسد والموبقات وصور الانحطاط والجرائم التي ترصدها مثل هذه الاغاني والمسلسلات التلفازية والتي لا تستوعبها مجلدات.. وهو ما يجعل العراقيين ينطبق عليهم المثل الشائع (ان لم تستح فافعل ما شئت).
واصبح لا يعني المؤلف او المنتج او المخرج او الممثل او حتى الحكومة التي تسهم في انتاج هذه الانحلالات صورة العراق ولا كرامته. وكل ما يعنيهم هو تحقيق اكبر قدر من الارباح من وراء هذه الاعمال الهابطة والمقززة التي تستخف بالعقول.
ويشير وليد الى ان الاعلام ووسائله كافة تقود الى الافلاس والتسيب وتفريغ العقول وكأنه يؤكد ان طريق الثراء والرقي يبدأ من هنا. وهو يسعى من جانب آخر الى توطين الخرافة في نفوس المتلقين من خلال الدعوة الى فكرة تحضير الجن والارواح وقراءة الفنجان ومعرفة الغيب عن طريق ورق لعب القمار.
والاعلام يجاري التجارب بهذا السلوك الشخصية العراقية القابلة للتغييب الغارقة في تفسير الاحلام والاتصال بالجن والاستنجاد بالدجالين والمشعوذين.. والغريب ان العراقي يواجه هذا السفه الاعلامي وهو مصور اللهو والمجون السائدة من حوله باتسامة رضا. وهو لا يفكر ان يسأل نفسه كيف لبلد يملك كل هذه الامكانيات يعيش هذا الفقر؟ وما هو السر وراء حالة الاحباط والافلاس والفشل الدائم في النهوض والتقدم وتحسين الاحوال المعيشية رغم توافر كل هذه الامكانيات؟
والجواب يكمن في حالة الاغراق في اللهو عند العراقيين التي جعلتهم يستخفون بكل شيء حتى بدينهم ووطنهم ولا يميزون بين الحلال والحرام ولا يريدون معرفة الفواصل بينهما خاصة اذا كان الامر يتعلق بلقمة العيش وهو ما يجسمه المثل الدارج (حلال اكلناه .. حرام اكلناه).
في العراق الكثير من المسؤولين الذين جمعوا ثروات ضخمة عن طريق العمولات والتسهيلات والخدمات وتمرير السلع الفاسدة.. والكثير من الفنانات اللاتي يتفنن في هز مؤخراتهن وكشف افخاذهن والتلاعب بجسدهن لجمع المزيد من الاموال الى ان يفنى شبابهن، وعندما يجدن زمانهن ولى، تعلن الواحدة منهن اعتزالها وتوبتها.
والكثير من اللذين يطلق عليهم المعممين الجدد استوطنوا القنوات الفضائية ليصرخوا في وجه الناس ويرهبونهم ويسمموا افكارهم بأسم الدين ويتهافتون على الاجور العالية التي تدفعها هذه القنوات ويعتبرونها بركة ورزق من الله. والادهى من ذلك، ان الحكومة لاتتحرك لمواجهة مثل هؤلاء الدعاة الذين يهددون السلام الاجتماعي وامن الوطن.
ويوماً دار حوار بين وليد وأحد ضباط الامن:-
قال الضابط ـــ نحن جميعاً في خدمة الوطن.
قال وليد ـــ يجب ان نتفق اولاً على الطريقة التي تخدم بها الوطن.
الضابط ـــ فسر كلامك
وليد ـــ انتم تضغطون على الكتّاب والمثقفين وتهددونهم وتعتقلوهم بدلاً من ان تدعموهم ليقاوموا الارهاب والتطرف وكثيراً ما تصادروا كتب بعضهم مع ان هذه الكتب ضد الارهاب والتطرف، هذا في الوقت الذي تكتظ فيه الساحة بعشرات الكتب التي تدعو للارهاب وتضفي عليه المشروعية، وهذه الكتب لا احد يصادرها ولا تتحركون لمنعها ومعاقبة ناشرها بل ان البعض منها يطبع بمباركة مؤسسات الدولة الدينية، فهل هذا يخدم أمن الوطن؟
الضابط ـــ انت تريد منا ان نمنع الناس من معرفة الدين، والدستور ينص على ان دين الدولة الرسمي هو الاسلام.
ولم يجد وليد رداً على كلام هذا الضابط الغبي، فقال ـــ انتم تقاومون الجماعات المتطرفة وكل يوم تبرز لكم جماعة جديدة بسبب هذه الكتب التي تمثل منابع الارهاب، فان لم تتحركو لسد هذه المنابع فسوف نظل ندور في دوامة الارهاب والتطرف.
وبالطبع كان هذا الحوار فوق مستوى عقلية الضابط وقدراته في الفهم، فهو يشعر في قراره بأن هناك خطأ ما لكنه لا يريد ان يشغل نفسه به او يفكر فيه لكونه مجرد منفذ للاوامر دون تفكير.
والاوامر لم ولن تصدر بالتحرك لسد هذه المنابع وذلك لكون هذه الجماعات جزء من اللعبة السياسية التي تلعبها الحكومة على حساب الوطن، واجهزته الامنية ايضاً جزء من هذه اللعبة.
ولا يمكن القول ان رجل الامن العراقي ليس لديه قناعة بما يرتكب من جرائم في حق المواطنين المستضعفين وانما هو يرتكب جرائمه بقناعة كاملة، فتنفيذ اوامر السلطة الجائرة في منظوره نوع من العبادة وهو ما يبرر المثل الشهير المتواتر على ألسنة العراقيين ـــ انا عبد الماأمور ـــ وبواسطة الاوامر تقتل الناس في مراكز الشرطة والامن والمخابرات والمعتقلات وتؤخذ النساء رهائن من اجل احضار المطلوبين.
ـــ 4 ـــ
سيطرت على وليد العديد من الهواجس وتواترت امامه العديد من المشاهد المؤلمة التي مرت عليه، وقد ادى ذلك الى فقدانه القدرة على النوم، فكان يشغل نفسه بالقراءة تارة والكتابة تاره اخرى وكثيراً ما كان يقضي الليل متجولاً في غرفته.
كانت الحوادث الوظيفية التي مرت به وصور الاحباط والتكالبات الدونية والاذى التي لحقته من محيطه الوظيفي.. كافية للقضاء عليه نفسياً الا انه كان يتسلح بالصبر منتظراً الفرج من عند الله. والفرج في مفهومه كان الرحيل/ الهجرة من العراق وهو ما كان يشغل فكره منذ سنوات مراهقته الا انه كان ينتظر الفرصة المناسبة، التي على ما يبدو لم تأت ..
كان وليد يخشى على نفسه من ان يصاب بالجنون او يصيبه ما اصاب بعض المثقفين الراحلين الذين ماتوا كمداً او سقطوا على قارعة الطريق ولم يعبأ بهم احد.
فتذكر صديقه الكاتب الذي كان ينشر مقالاته في مختلف الصحف والمجلات العراقية ويتألم لحال العراق ويشاركه تصوراته عن شعبه حين سقط امامه في شارع الكتب المتنبي الذي كان يداوم على التواجد فيه وفاضت روحه على الرصيف. وكيف اصر ضابط مركز شرطة الميدان المجاور لشارع المتنبي على ارسال جثته للمشرحة لمعرفة سبب الوفاة لولا وساطة البعض لينتهي الامر بتسليمها لاهله ليدفن في صمت وكأن لا يعرفه احد.
وتذكر وليد ايضاً احد معارفه من كتاب الصحافة العراقية عندما اصيب بانفجار في الدماغ، نقل على اثره الى المستشفى ليلفظ فيها آخر انفاسه وهو يرى امامه الكثير من السفهاء والسقطة في عالم الصحافة والاعلام وقد تم تصعيدهم وتسليمهم بعض الصحف اليومية والقنوات الفضائية، بعد ان اشهر القدامى افلاسهم وفاحت رائحتهم.
ورأى وليد الكثير من المثقفين النابهين اصحاب الرأي وكيف انهاروا تحت وطأة الضغوط المعيشية واستسلموا للامر الواقع، ومنهم من سار في ركاب السلطة وسلطت الاضواء عليهم وفتحت امامهم الابواب على مصارعها ليدخلوا عالم الاثرياء.. ومنهم من اختل عقله فأصبح يهيم في الطرقات يحدث نفسه ويسخر منه العامة.
ولازال وليد يذكر احد معارفه من الصحفيين الذي كان يردد امامه دائماً ـــ نريد ناكل خبزة ـــ وكيف اصبح رئيس مجلس ادارة احدى المؤسسات الصحفية ويدافع باستماتة عن الفساد والمفسدين بعد ان انتمى الى زمرة الزمارين والمتملقين والجلاوزة السلطويين.
وعلى الرغم من ذلك كله بقى بعض الاصدقاء ملتصقين بــ وليد منهم من كان يشاركه آلامه ومتاعبه، الا انه لا يمكنه ان يكون على شاكلته ويجهر بما يجهر به من اراء ومنهم من هجره مخافة منه ومنهم من كان عالة عليه.. ومنهم من كان يدعي الثقافة متمسح بالمثقفين.. وامثال الاخير اصبح لهم وجود وصوت ببركات التعليم المجاني وتذويب الفوارق بين الطبقات.. وكان وليد قد اهداه بعض الكتب ثم اكتشف انه لا صلة له بالقراءة وانه مجرد مدعي.
ــــــ 5 ــــــ
لخيباتي وخيبات غيري .. خيبات كثيرات ستأتي في قابل الايام ..أتعتقدون لحينها سأصمد وسأتمكن من الكتابة عنها …؟!!!!

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب