التقييم الصحيح الذي يحدد التفاضل بين الناس يعتمد في الغالب على النسبة التحليلية لما يصدر منهم سواء عن طريق الأقوال بعد تمحيصها والاطمئنان إليها أو عند الاتصاف بمنهجية التطبيق، وهذا الفعل ربما يتفق عليه بعض المؤهلين لعملية التقييم الذين يجدون أنفسهم في منأى عن وسائل الإرباك الفكري كون العملية لا تتجه نحو الوسطية والاعتدال في توضيح المميزات المتخذة من قبل القائمين عليها، وذلك بسبب تفرقها في المصاديق المستخرجة من المفهوم الكلي بصورة تتماثل مع القياس الزائف، وهذا ما يجعل التقدير آخذاً بالترقي تارة وبالتدني تارة أخرى، ومجموع هذا البيان يرجع إلى السمات النفسية والخلقية التي يتمايز بموجبها الناس حسب الطبيعة الفطرية المنفصلة عن المؤثرات الخارجية التي لا تأتلف مع التسليم المطلق الذي يتوقف عليه التفاضل، ومن هنا فقد يتعذر اتخاذ القرار النهائي حسب النظرة البشرية القاصرة. فإن قيل: إذا كان الأمر كذلك فلا شك أن الباعث سوف يفقد قدرته العملية وبالتالي يكون الميزان الإنساني في معزل عن الترجيح؟ أقول: بإمكاننا تقبل ذلك إذا ابتعدنا عن الترجيح الذي يخضع للمعايير المعهودة لدى جميع الأوساط العلمية، دون التمايز النسبي الذي يستطيع أصحاب التقييم تحديده نظراً للأفعال الظاهرة التي يختص بها من يقع عليه التقييم، أما الأفعال التي لم يكتب لها الظهور فلا جرم أنها ترد إلى العلم اليقيني وهذا لا يتيسر الوصول إليه بالطرق التقليدية، واستناداً لما تقدم يقتضي التسليم بما ورد في متفرقات القرآن الكريم التي أشار تعالى من خلالها إلى الأشخاص الذين اصطفاهم وإلى المقاييس التي تم بموجبها تبيان مستوى التقييم حسب تعبيرنا، ثم بعد ذلك نستطيع فهم حقيقة النفس البشرية المنزهة عن الأفعال غير الحسنة.
ومن مصاديق هذا المعنى قوله جل شأنه: (إن الله اصطفى آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران 33. والآية جمعت المصطفين المشار إليهم على الرغم من اختلاف الأوقات التي عاشوا فيها وهذا يدل على الصلاح المطلق الذي لا يخلو منه عصر من الأعصار، وكذا لا فرق بين النوع أو الجنس في هذا الشأن، كما هو ظاهر في اصطفاء الملائكة واصطفاء مريم (عليها السلام) وقد بين تعالى هذا الاصطفاء في قوله: (الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير) الحج 75. وكذا قوله: (وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين) آل عمران 42. وقد ذكرنا في سياق حديثنا أن المعنى الفعلي للاصطفاء قد يصعب على الإنسان الوصول إلى معرفة حقيقته، ولهذا أشار الله تعالى إلى إحدى صور عجز الإنسان عن الإحاطة بنتائج التقييم وذلك في قوله: (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم) الزخرف 31. ومن هنا خاطب سبحانه نبيه (ص) مبيناً هذا الموقف بقوله: (أهم يقسمون رحمة ربك) الزخرف 32.
ومن المصاديق القريبة لهذا المعنى ما ورد في قوله تعالى: (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته سيصيب الذين أجرموا صغار عند الله وعذاب شديد بما كانوا يمكرون) الأنعام 124. وهذا يدل على أن الإنسان لا يراعي الأصلح في الاختيار وإنما يكون ترجيحه عائداً إلى الأهواء والرغبات الخارجة عن الحق، ولا يخفى أن النبوة هي تفضل من الله تعالى لمن كان أهلاً لها، ولا يمكن أن تعطى هذه المنزلة إلا لمن علم الله تعالى بحميد عاقبته، وقد ورد هذا المعنى صراحة بحق إبراهيم وإسحاق ويعقوب وذلك في قوله جل شأنه: (واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار… إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار… وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار) ص 45- 47. وقريب منه ما ذكره تعالى في خطابه لموسى بقوله: (قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين) الأعراف 144. وقد يعزز هذا الاصطفاء بقوله: (واصطنعتك لنفسي) طه 41. وسيمر عليك معنى الاصطفاء الخاص بالنبي إبراهيم (عليه السلام) في المساحة المخصصة لتفسير آية البحث.
تفسير آية البحث:
قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) البقرة 130. بعد أن ذكر تعالى ما جرى لإبراهيم من الكلمات التي ابتلاه بها، وكذا ما كان من رفع قواعد البيت وما تفرع عن ذلك من أمر الحج، عطف سبحانه هذه الآية على تلك المهمات التي ألقاها على عاتقه بنوع من التقريع لأهل الكتاب والمشركين، ولهذا ورد السياق بصورة استفهامية، أي كيف يرغب هؤلاء الناس عن ملة إبراهيم مع رؤيتهم لصفاته الحسنة.
قوله تعالى: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم) من آية البحث. الملة المشار إليها هي دين الإسلام لا خصوص شريعة كل نبي، وبناءً على هذا التقدير نرى أن المشركين قد أعرضوا عن هذه الملة كونها لا تتناسب مع عبادة الأوثان، وينطبق هذا الإعراض على أهل الكتاب كذلك لعدم التزامهم بمبادئ التوحيد لأنهم لا يقيمون وزناً إلا للتثنية والتثليث، ومن هنا ظهرت لديهم مجموعة من العقائد الفاسدة والأخلاق التي لا تتناسب مع الصفات الحميدة لسيرة إبراهيم (عليه السلام) وهذا ما تشير إليه آية البحث.
أما قوله: (إلا من سفه نفسه) من آية البحث. السفه يقابل الرشد وفي هذا الموضع يظهر أنه يقابل العقل أي لا يعرض عن ملة إبراهيم إلا من لا عقل له، وتأتي السفاهة في القرآن الكريم على وجهين، الأول في الأمور المعنوية والوجه الثاني في الأمور المادية، ويشهد للوجه الأول قوله تعالى: (وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا) الجن 4. وكذا قوله: (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون) البقرة 13. وقوله: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها) البقرة 142. ويشهد للثاني قوله تعالى: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا) النساء 5. وكذلك قوله: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم) الأنعام 140. وهنالك آيات أخرى لكلا الوجهين.
قوله تعالى: (ولقد اصطفيناه في الدنيا) من آية البحث. أي جعلناه صافياً من جميع الأدناس والأدران إضافة إلى اصطفاء الله تعالى له بالرسالة، والخلة والكلمات وتطهير البيت والإمامة، واتخاذ مقامه مصلى والنجاة من الظالم الذي حاجه في ربه والنظر في النجوم، وما إلى ذلك من الخصائص المتفرقة في القرآن الكريم، وسيأتي بيان كل واحدة منها في الموضع المناسب إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: (وإنه في الآخرة لمن الصالحين) من آية البحث. يظهر أن ختام الآية جاء استجابة لدعاء إبراهيم المشار إليه في قوله تعالى: (رب هب لي حكما وألحقني بالصالحين) الشعراء 83. وهذا الدعاء يتقارب مع دعاء يوسف (عليه السلام) الذي ذكره تعالى في قوله حكاية عنه: (رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين) يوسف 101. وهذا يدل على أن لبعض الصالحين منزلة أرفع من المنزلة التي كان عليها إبراهيم ويوسف، ولهذا أرادا اللحاق بهم.
فإن قيل: إذا كان إبراهيم من أولي العزم كيف يطلب اللحاق بالصالحين؟ أقول: هذا ما أشرنا إليه في معرض حديثنا كون الاصطفاء من الأمور التي لا يختص بها إلا الله وحده، وقد بين تعالى تفضيل الأنبياء بعضهم على بعض في قوله: (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داوود زبورا) الإسراء 55. وكذا قوله: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس) البقرة 253. ولا يخفى أن النبي محمد (ص) هو أول أولئك الذين وصفهم الحق سبحانه بالصالحين، كما هو مبين في قوله: (إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين) الأعراف 196. وهؤلاء هم الذين أشار إليهم تعالى في الكبرى بقوله: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء 105. فتأمل ذلك بلطف.
من كتابي: السلطان في تفسير القرآن
عبدالله بدر اسكندر