اعتقد أن الوقت بات ملائماً في سحب الأقلام من مستنقعات الهذيان السياسي وتحريكها نحو بعض المواضيع والظواهر المتعلقة ببناء البنى التحتية للمنظومة القيمية للإنسان في زمن “الأربعين دولاراً” للبرميل الواحد، فقد توفر لنا منظمة “أوبك” فرصة ذهبية في انجلاء الكثير من سياسي البترول من المائدة العراقية، أي أن أرقام الموازنة المرتقب إقراراها لاتفتح شهية الكثير منهم في الخوض مجدداً في استخدام الدين والمدنية وملحقاتها الديمقراطية في أشغال الجماهير وتوجيهها نحو أهداف سياسية حزبية وتصويرها على أنها المقدس الوطني، فكانت حقبة الميزانيات الانفجارية مواسم دسمة لعصف وعواصف سياسية، أنتجت لنا فرداً غاطساً في السياسة دون وجه حق، وشطبت من قاموس مؤسستنا مفردة مواطن، لذا فان على المثقفين استثمار الوقت وإملاء المساحات التي سيتركها سياسيو الاختلافات “المفتعلة”، فليس هنالك وافر من الوقت لسكبه على مساحة الانتظار، وخصوصاً أن مفاهيم التشرذم وصلت إلى أمنيات الأطفال بعد أن تغير مسار أحلامهم في أن يصبحوا أطباء أو مهندسين مستقبلاً، إلى “أمين عاصمة” أو”نائب رئيس جمهورية” أو “برلماني متقاعد”.
قبل قرنين، كان التعذيب الجسدي والنفسي في السجون الروسية، منهجاً متبعاً وشريعة دستورية في فقه القياصرة آنذاك، وليس من حق الشعب الاعتراض أو التغيير بمفردات “الدستور المقدس”، فكتب الروائي الروسي دستويفسكي، الذي كان قابعاً في إحدى الزنزانات، روايته الشهيرة “ذكريات من منزل الأموات”، والتي تناولت بشاعة ما يجري خلف القضبان من انتهاك للمفردة الإنسانية وعبودية سوداء لا تعترف بسوى التنكيل والضرب والوحشية قانوناً، فأسهمت تلك الرواية في تحريك مجرى الإرادة في ممرات الجماهير لتعلن عن رفضها لما يجري، مما اجبر الملك على إلغاء التعذيب والتماشي مع رغبات الشعب، والسؤال الذي ممكن طرحه هل نحن نفتقر إلى قلم ناضج أو إلى شعب يجيد القراءة حتى نستطيع إجراء اللازم والمطلوب في صناعة وعي اجتماعي؟.
قطعاً سيكون الجواب كلا، ولكن مشكلتنا الحقيقية تكمن في إننا نختزل جميع ظواهرنا الاجتماعية بمفهوم سياسي، لذا تجد أن الفساد والرشوة والانحلال المؤسساتي والأخلاقي وغيرها من الظواهر الأخرى، مفاهيم نسبية مابين شخص وأخر في البيئة ذاتها، لأنهم واقعين تحت تأثير “المخدر” ألاثني والحزبي والطائفي، وهو ما يدلل على عدم وجود أبجديات عامة في فهم الأشياء بشكلها الصحيح.
قد يرى البعض أن ما يطرح أشبه بدعوة لسماع موسيقى تحت نيران المعركة، ولكن حقيقة الأمر أن الحرب في العراق حرب “بسبعة أرواح”، سينتهي فصل منها ليبتدئ الفصل الأخر، وستكون عناوينها مختلفة وحسب ما تقتضيه المصالح الدولية فتارة “داعش” وتارة اخرى اقتتال الأحزاب والعوائل المسلحة، وتارة الأقاليم ومعارك ترسيم الحدود، وغيرها من مقترحات الصراع، فيما يبقى الخيار الوحيد والبطاقة الرابحة لقطع وتقطيع تلك المشاريع، هو تسليح الفرد بوعي وطني، يبدأ من التصالح مع الذات وينتهي عن إطار المؤسسة