23 ديسمبر، 2024 5:01 م

ولا يقبل منها شفاعة ولا يقبل منها شفاعة

ولا يقبل منها شفاعة ولا يقبل منها شفاعة

ترتبط القوانين الوضعية الناشئة عن الأفكار السليمة ارتباطاً وثيقاً بالأسس المنهجية التي تقوم على بناء المجتمعات التي وضعت لأجلها، وإذا ما أراد الإنسان الوصول إلى معرفة هذا الارتباط فمن الضروري أن يتحقق لديه وضوح الأمر الجامع بين السنن التشريعية وبين تفاعل المجتمع مع الفقرات الصادرة عنها، علماً أن هذا الأمر لا يتم إلا إذا حصل هناك اتفاق يجيز العمل المشترك بين الحاكم والمحكوم لدى المجتمعات التي أشرنا إليها، وأنت خبير بأن إثبات هذا العمل بين الطرفين يقضي بتفرع القوانين وما تتضمنه من فقرات على جلب المنافع ودفع المضار دون الابتعاد عن ملازمة الصفات الحسنة أو ما تشتمل عليه الكبرى بجميع مصاديقها وإن كان بعضها لا يتناسب ورغبات الناس وذلك نظراً للاعتبارات البشرية التي يتصف بها مشرع القوانين، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية إذا وضعت تلك القوانين بناءً على أسس مجانبة للصواب فمن الطبيعي أن تكون حجة من شرعها باطلة ومدخولة ولا ترتقي إلى تكامل الحياة الكريمة فضلاً عن الوصول بها إلى القيم الإنسانية، واعتماداً على هذا التشريع تكون جميع المواد القانونية غير منصفة لعامة الناس باستثناء الحاكم المستبد الذي وضع القانون لأجله، وإن شئت فقل ما عدا الحاكم الذي وضع القانون بأمر منه.

وبناءً على ما تقدم يمكن معرفة مدى انتشار الظلم بين الناس على اختلاف اتجاهاتهم ومشاربهم، وهذا ما يجعل المتسلط على رقاب الناس ينظر إلى المنافع وكأنها من المسلمات التي يجب أن تقتصر على فئة خاصة لا ينالها التأثير السلبي الذي وضع في فقرات القانون، ولهذه الأسباب حدث التفريق بين قانون العقاب وما يحتويه من مواد، وبين الانحرافات ومن يقوم بفعلها، ولذلك ابتعدت السنن والنظم عن الطرق المثلى وأبدلت بالوسائط الباطلة التي اتخذت دور الشفيع في تغيير رأي الحكام أو من ينوب عنهم في تسيير القضاء الذي تصدر عنه الأحكام الظالمة، ومن هنا ترى أن كثيراً من الناس الذين وقع عليهم العقاب القاضي والموافق لنوع الجرم الثابت عليهم قد انتقل بهم الأمر إلى ما يخالف المواد القانونية المعدة سلفاً وذلك بسبب شفاعة أصحاب الشأن أو إعطاء الفدية غير المشروعة، أو الانتصار للظالم من غير وجه حق وما إلى ذلك من العلل التي جعلت العقاب يصبح برداً وسلاماً على أصحاب الجرائم الكبرى، وهذا العمل بحد ذاته يأخذ الطابع الملازم للشفاعة المبنية على الباطل.

من هنا نعلم أن هذا القانون الوضعي ما هو إلا مثالاً مصغراً للإرث الديني الناتج عن أخطاء المجتمعات ومن يقوم بإرشادها إلى الطرق الجائرة مع ملاحظة اختلاف المسميات، ولهذا نرى أن الوثنيين كانوا يعتبرون التقرب إلى الله تعالى لا يكتب له الثبات إلا إذا كان مرتبطاً مع الأصنام التي تأخذ دور الشفيع بينهم وبين الحق سبحانه، ويمكن التعرف أكثر على هذا النهج عند الرجوع إلى متفرقات القرآن الكريم، كقوله تعالى: (ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى إن الله يحكم بينهم في ما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار) الزمر 3. وكذا قوله: (ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله قل أتنبئون الله بما لا يعلم في

السماوات ولا في الأرض سبحانه وتعالى عما يشركون) يونس 18. من هنا يظهر أن في الأمر نوع من الغرابة في فكرة الإله الواحد إذا ما عرضت على الوثنيين، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: (وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون هذا ساحر كذاب… أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب) ص 4- 5. فإن قيل: إلامَ يرجع سبب هذا الاعتقاد؟ أقول: يرجع سبب هذا الاعتقاد إلى الأفكار الهدامة والمضللة التي يغرسها الأسياد في عقول أتباعهم مما يجعلهم يظنون أن للوثن منزلة الشفيع المباشر الذي يتوسط بينهم وبين الله تعالى، ولمّا طغى هذا الأمر على اتجاهاتهم جعلوا لذلك الوثن منزلة تقتضي المساواة برب العالمين، كما يشير سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (تالله إن كنا لفي ضلال مبين… إذ نسويكم برب العالمين) الشعراء 97- 98. وهذا الاتجاه غير الصحيح لا يختلف كثيراً عن النهج المتبع لدى اليهود والنصارى على حد سواء.

وقد بين الله تعالى هذا المعنى بقوله: (وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير) المائدة 18. وهذا يدل على تقارب المعتقد بين الفريقين، مما يجعل كل فريق منهما يذهب إلى أن اتخاذ الشريك المماثل لله في العبادة سيكون هو الشفيع المخلّص من النار، فالنصارى أمرهم لا يخفى على من له أدنى علم وذلك لاعتقادهم بأن عيسى هو المنقذ الذي يكون خلاصهم على يده هذا من جهة، ومن جهة ثانية نرى أن لهم اعتقاد آخر يقضي بشراكة مريم في العبادة مع الله، ولذلك جعلوها بمنزلة الأصنام التي يعتقد الوثنيون أن شفاعتها ترتجى عند الله تعالى، ومن هنا كانت تقدم لها الطقوس في دور العبادة الخاصة بهم، وهذا ما يفهم من الاستنكار الظاهر الموجه لعيسى في قول الحق سبحانه: (وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب) المائدة 116.

أمّا البنوة التي يعتقد بها اليهود فقد جعلتهم بمنزلة الأبناء من الأب، وهذا يدل على تمييز أنفسهم عن عامة الناس زوراً وبهتاناً، ومن هنا كان اعتقادهم أن النار لا تمسهم إلا أياماً معدودة، كما يتضح ذلك من قوله تعالى: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل أتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون) البقرة 80. وكذا قوله: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) آل عمران 24. وكما ترى فإن هذا الاعتقاد الباطل قد وضعهم في المرتبة التي لا يعلى عليها، ولذلك كانوا يظنون أنهم أفضل من جميع الأجناس البشرية الأخرى، وقد تجد هذا الأمر أكثر تجلياً في آية البحث التي يشير فيها تعالى إلى تحذيرهم بقوله: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون) البقرة 48.

فإن قيل: لمَ قال تعالى: (واتقوا يوماً) البقرة 48. علماً أن يوم القيامة لا يمكن أن يتقى لأنه سيكون مشهوداً من قبل الجميع؟ أقول: في السياق حذف أي اتقوا أهوال وشدائد ذلك اليوم، وهذا نظير قوله: (يا أيها الناس اتقوا ربكم) النساء 1. الحج 1. أمّا قوله تعالى: (فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة) البقرة 24. فهذا على بابه.

فإن قيل: لمَ قدم تعالى قبول الشفاعة في آية البحث وأخر نفعها في قوله تعالى: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون) البقرة 123. أقول: يرجع الفرق إلى أن آية البحث تختص باليهود الذين يميلون إلى حب المال، دون النظر إلى كرامتهم، أما الآية الأخرى فتشير إلى الذين يقدمون كرامتهم على حب المال، ومن دأب القرآن المجيء بكلا الصنفين عند الحديث عن أمر يحتاج إلى تفريق، وقد مر عليك في البحث قوله تعالى: (أياماً معدودة) البقرة 80. وقوله: (أياماً معدودات) آل عمران 24. وهذا المعنى نظير قوله: (فألقي السحرة ساجدين… قالوا آمنا برب العالمين… رب موسى وهارون) الشعراء 46- 48. وكما هو ظاهر فإن آيات سورة الشعراء تشير إلى أهمية موسى لدى مجموعة من السحرة، أما تقديم هارون على موسى في قوله: (فألقي السحرة سجداً قالوا آمنا برب هارون وموسى) طه 70. فهذا يرجع إلى اعتقاد القسم الآخر منهم، وليس في السياق ما يدل على مراعاة الفاصلة فتأمل.
من كتابنا: القادم على غير مثال