23 ديسمبر، 2024 2:14 م

ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً

ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً

الطرق المؤدية إلى الكفر وإن اختلفت مصاديقها فهي ترتبط جميعها في الأغراض التي يدعو القرآن الكريم إلى إزالتها ونبذها، والتوجه إلى عبادة الله تعالى بناءً على النهج الذي شرعه والذي يتفرع على الدعوة الخالصة من أي نوع من أنواع الشرك، ولهذا فإن ما يصدر عن اليهود لا يخرج عن كونه كفر مترتب على مبادئ خاطئة، كما يتضح ذلك من متفرقات القرآن الكريم، ولذلك فإن الإشارة إليهم لا تبتعد كثيراً عن هذا المعنى، ومن الدليل على ذلك قوله تعالى: (لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة) البينة 1. فإن قيل: كيف يصفهم القرآن بالكفر وهم أهل كتاب؟ أقول: مصطلح الكفر الذي أطلق على أهل الكتاب في الآية يرجع إلى عدم تصديقهم بالدعوة النبوية من جهة، وإلى كتمان ما في كتابهم وتحريف بعضه من جهة أخرى، وهذا لا ينطبق على جميع أهل الكتاب، وإنما على بعضهم، وقد يفهم ذلك من التبعيض الوارد في قوله: (من أهل الكتاب) في الآية آنفة الذكر، وقد يؤيد هذا المعنى بقوله تعالى: (ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون) الأعراف 159. وفي الآية ما يثبت أن قوم موسى لم يكونوا جميعهم على طريق الضلال، وإنما فيهم من اهتدى إلى الحق وأرشد إليه، والآية عامة لا تحدد بزمن معين، فعلى هذا السياق يكون الأخذ بعموم اللفظ هو الظاهر. فإن قيل: كيف استطاع هؤلاء من الجمع بين الإيمان بكتابهم وبين الشرك؟ أقول: لا يمكن اجتماع الإيمان المطلق مع الشرك باعتبار تقابلهما، أما إذا كانت هناك نسبة بينهما فليس ثمة ما يمنع من اجتماع أبعاضهما.

من هنا يظهر الفرق بين الآيات التي تخاطب اليهود وبين الآيات الموجهة للمشركين، وذلك بناءً على ما يقع على عاتق اليهود من ثقل متمثل في دورهم الريادي المأخوذ من الشريعة المنزلة عليهم، أمّا ما يقابل ذلك من غرض الآيات الموجهة للمشركين فهذا لا يتعدى إلى أكثر من تبليغهم برسالة النبي محمد (ص) دون إلزامهم بقضايا الطرح الموثق المتعلق بالتخلية قبل التحلية، كما هو الحال مع أهل الكتاب، ومن هنا نعلم أن القرآن الكريم لا يراعي المواجهة في الأسلوب الثنائي عند تعامله مع المشركين، ولهذا تجد اختلاف التعبير في خطاب اليهود وتوبيخهم على أفعالهم، وتذكيرهم بالنعم التي أنعمها الله تعالى عليهم وكيفية جحودها، إلى آخر ما يثير لديهم العمق في الوصف، ولعل هذا هو السبب في قول الحق سبحانه: (ولا تكونوا أول كافر به) البقرة 41. علماً أن المشركين قد سبقوهم إلى الكفر، ولكن تأثير الشرك لا يقاس إلى جانب تأثير اليهود في الدعوة سواء آمن بها المشركون أم لم يؤمنوا، وذلك لعدم الاهتمام بأمرهم.

وبناءً على ما تقدم تظهر النكتة في عطف آية البحث على قوله تعالى: (يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون) البقرة 40. أي: اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي… إلخ، ثم قال: (وآمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون) البقرة 41. والمقصود هنا هو القرآن الكريم باعتباره يصدق جميع ما في التوراة الأصلية قبل التحريف، وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل) آل عمران 3. وفي هذا دليل على أن الإيمان بالقرآن يقتضي الإيمان بالتوراة والإنجيل وجميع ما أنزل على الأنبياء من قبل، والعكس صحيح أي إن الإيمان بالتوراة والإنجيل إذا كان في منأى عن الإيمان بالقرآن فهذا قد ينقض الإيمان من الأصل، وبهذا نعلم أن دين الله تعالى هو دين واحد لا يقبل التجزئة، ولا تفترق عليه الأمم، لأن الله تعالى أنزل الكتب يصدق بعضها بعضاً وكذا الأنبياء يبشر السابق منهم باللاحق.

ولهذا فإن البشارة بالنبي محمد (ص) قد ذكرت في جميع الكتب السابقة، وكذا ما كان من نعته وصفاته، وقد أشار الله تعالى إلى هذه الحقيقة بقوله: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) الأعراف 157. وكذا قوله: (وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقاً لما بين يدي من التوراة ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد) الصف 6. وقوله: (محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) الفتح 29. وأخيراً بيّن تعالى النتيجة بقوله: (ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) البقرة 89.

وبناءً على هذا الوصف القاطع لليهود يتضح أنهم من سنخ الكافرين بكتاب الله تعالى فلا يعتد بإيمانهم الجزئي، كما بينا ذلك من خلال البحث، وبهذا يظهر الفرق في تنوع الإعجاز القرآني، فكما ذكر تعالى في قوله: (ذلك الكتاب لا ريب فيه) البقرة 2. وتحدى العرب في مطلع السورة أن يأتوا بمثله، نجد هنا أن الخطاب قد اختلف مع اليهود، وذلك لأن هؤلاء لا يمكنهم الوصول إلى مفاهيم البلاغة القرآنية، وما هو داخل في الملكات العربية من أدوات، ولهذا انتقل بهم السياق إلى إعجاز آخر ناتج عن إظهار القرآن لصفات النبي (ص) التي أرادوا كتمانها، ثم بعد ذلك بيّن الرسالة على أتم وجه كما هو في نهجهم، لأن الشرائع تتفرع جميعها على دين واحد، أمّا ما حصل من جهتهم فهو لا يخرج عن كونه تعنتاً وإنكاراً للحقيقة، كما في قوله تعالى: (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا) النمل 14. ومن هنا نجد في سياق آيات البحث بعض الإشارات التي تدعوهم إلى تفهم إعجاز القرآن المعنوي والمرتبط في تذكيرهم بالطرق المؤدية إلى الهداية، كما هو شأن الكتب المنزلة على أنبيائهم، وعلى رأسها التوراة الذي يعد من أهم مصاديق تلك الكتب وإن لم يكن هو الكتاب الوحيد من بينها.

قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً) البقرة 41. أي لا تقايضوا ما في التوراة من آيات الله التي فيها نعت الرسول (ص) مقابل عرضاً يسيراً من الدنيا، والاشتراء لا يراد منه المعنى العرفي في هذا الموضع وإنما يفيد الاستبدال، كما في قوله تعالى: (ومن الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذها هزواً أولئك لهم عذاب مهين) لقمان 6. وكذا قوله: (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) البقرة 16. وهناك مواضع أخرى تفيد المعنى نفسه… ثم ذيّل تعالى الآية بقوله: (وإياي فاتقون) البقرة 41. وتقديم الضمير يفيد الحصر، كما في قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) فاتحة الكتاب 5. والترهيب ظاهر في التذييل.

قوله تعالى: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) البقرة 42. الآية تشير إلى قسمين من أقسام الخداع لدى اليهود.

القسم الأول: يتمثل في الجدال بالباطل وإثارة الشبهات التي لها ارتباط وثيق بما يخفى على عامة الناس ولا يمكنهم الوصول إلى تفاصيله، وهذا العمل لا يزال قائماً إلى اليوم، كما هو مبيّن في قوله تعالى: (وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق) غافر 5.

القسم الثاني: يتمثل في إخفاء الحقائق وكتمانها كما هو الحال في كتمان نعت الرسول وصفاته، وقد مر عليك ذلك من خلال البحث، وبهذا يكون القسم الأول فيه نوع من الإشراف على القسم الثاني، ومن هنا كان الترتيب آخذاً بالترقي من الأدنى إلى الأعلى.

من كتابنا: القادم على غير مثال