ولاء الصواف حين تصير الأرض شعرًا والقصيدة خريطة للروح

ولاء الصواف حين تصير الأرض شعرًا والقصيدة خريطة للروح

في الشعراء من يُشبه الأرض، ومن يُشبه الماء، ومن يُشبه الغيم، أما ولاء الصواف، فهو كل ذلك معًا، شاعرٌ جيولوجيّ الحرف، يحفر في طبقات اللغة كما يحفر عالمُ الأرض في تضاريس الزمن، ليكشف عن مجازاتٍ منسية، وخيباتٍ متراكمة، وأملٍ يسطعُ أحيانًا كعصفورٍ عبر سماء الخراب.

ولد الشاعر ولاء حسين علي إبراهيم الصواف في الحلة بتاريخ 17 آب 1966، المدينة التي أنجبت حكايات بابل القديمة، ووهبت أبناءها الحنين والفن والمعرفة. درس في كلية العلوم بجامعة بغداد، وتخصص في الجيولوجيا، فصار يقرأ التشققات الخفية في الصخر، قبل أن ينتقل لقراءة التشققات الأعمق في النفس البشرية، عبر الشعر. ومنذ بداياته، كانت الكلمة عنده بوصلة، والقصيدةُ وطنًا بديلًا.

كتب الشعر مبكرًا، ولم يكن مجرد صوت عابر في فضاء الأدب، بل أصبح ركنًا من أركان الحركة الثقافية في العراق. نشط في اتحادات الأدباء، ترأس نادي الشعر في بابل، أدار دار نشره الخاصة، وحرر مجلات ثقافية مهمة. لكن صوته ظل نابعًا من الداخل، من الأعماق التي لا يبلغها سوى مَن خبروها.

مجاميعه الشعرية: “كاميكاز”، “كفن شهريار”، “أغاني الصموت”، “كلب ينبح فوق الغيم”، “مطر مايو”… كلها عناوين توحي بالخروج عن المألوف، والارتماء في تجارب شعرية تمزج الرؤيا بالحلم، والواقع بالخيال، والحضور بالغياب.

ولاء الصواف ليس شاعرًا تقليديًا، بل هو شاعر السيرة الشعرية، وفق ما وصفه الدكتور عبد الله التميمي الذي رأى أن “السيرة في شعر الصواف تُؤسّس ذاكرة حرة لا تخضع لسياقات الواقع”، بل تتقاطع مع سيرته الشخصية وسيرة بلاده الجريحة، من خلال رؤيا فنية “تشغل الخيال الشعري وتتماهى مع الأحاسيس المحسوسة”، ليخلق نفسًا شعرية تسرد وتدافع وتقاوم. ويضيف التميمي أن الصواف حين يكتب عن مدينته، الحلة، “يدخل بشفراتها التاريخية، ويعيد تنظيم سيرة المدينة عبر خياله الواسع”، ليجعل من الألم مادة للشهادة لا للندب.

أما الناقد ذياب شاهين، فوقف طويلاً عند ديوانه “أغاني الصموت”، حيث رأى أن العتبة الأولى فيه ــ أي العنوان ــ تكشف عن مفارقة شعرية عميقة تجمع بين الصوت والصمت، بين الغناء والسكوت. يقول شاهين:

الشاعر الحديث يرى بأذنيه ويستمع بعينيه”، في إشارة إلى لعبة الحواس التي يفرضها الصواف على قارئه، والتي تجعلنا نستمع إلى الغناء الداخلي، إلى القصائد التي لا تُلقى بصوتٍ عالٍ، بل تُقرأ كأنها ترتيلة خافتة في أعماق الذات. فـ”الصَّموت” كما يقول، ليس سكوتًا ناتجًا عن خوف، بل صمتٌ ناتج عن حكمة، عن بلاغة مؤجلة.

ولم تغب ظاهرة الاغتراب عن تجربة الصواف الشعرية، بل كانت من أبرز ملامحها، كما رصدت ذلك الناقدة هيام عواد راشد في بحثٍ نُشر بمجلة الفنون والآداب، حيث درست دواوينه من زاوية الاغتراب الزماني والمكاني والاجتماعي، مشيرة إلى أن “الشاعر ولاء الصواف حمل وجع الإنسان المغترب في وطنه، والمحروم من امتلاك مصيره، فجاء شعره صدىً لهذه المعاناة العميقة التي تجاوزت الخاص إلى العام“.

لقد تُرجمت قصائد الصواف إلى الفارسية، والإنجليزية، والإسبانية، ودرِست أعماله في رسائل ماجستير ودكتوراه في إيران والعراق، وكان عنوان إحداها: “ظواهر الأداء الدرامي في الشعر العراقي – ولاء الصواف أنموذجًا”، وهي إشارات واضحة على أنّ ما يكتبه لم يعد ملكه وحده، بل أصبح جزءًا من الأدب العراقي الحديث، يُقرأ ويُحلَّل ويؤثّر.

ولاء الصواف ليس شاعرًا يكتب عن الحروب من خارجها، ولا يصف الألم كمراقب، بل هو ابن هذه التجارب جميعها: الحرب، الفقر، الغربة، والمقاومة. يكتب من قلب الصدع، ويغني وسط الصمت، ويزرع المعنى في أرضٍ قاحلة كي لا ييبس الجمال تمامًا.

هو شاعرٌ لا ينتمي إلى مدرسة شعرية بعينها، بل إلى لحظة إنسانية متوترة، حيث كل حرفٍ محاولة للبقاء، وكل قصيدة تمرينٌ على عدم الانكسار.

أحدث المقالات

أحدث المقالات