18 ديسمبر، 2024 4:14 م

وكل سباق له عواقب وفي ذلك فليتنافس المتنافسون

وكل سباق له عواقب وفي ذلك فليتنافس المتنافسون

إن مسألة الخوض في الكتابة المؤدية إلى نشر موضوع ما بصيغة مايطلق عليه ب”المقال أو المقالة” مسألة ليست بالسهلة كما يظن البعض، ذلك لإن الكتابة هي عصارة جهود فكرية وفنية تستنزف الوقت والجهد وتزاحم بعض الالتزامات الخاصة بالكاتب،كما وتتأثر بعدة مقومات من ابرزها مشاكل التيار الكهربائي والنت -خصوصا عندنا في العراق- والاعتبارات العائلية والإجتماعية الاخرى، والأمور الادارية فيما بين الكاتب والجهة القائمة بالنشر،

ولايتقاضى الكاتب عن ذلك أجرا من المال أبدا، إنما أجره الوحيد هو أن توضع اهتماماته الفكرية والأدبية في ميزان الاستحقاقات الانسانية والاعتبارية المنصفة.

وأستطيع القول إن معظم الاعتبارات ترضخ لعوامل المحسوبيات والمنسوبيات إلا الجهود الفكرية والأدبية والفنية، فإنها لاترضخ لتلك العوامل بتاتا، ذلك بحكم رضوخها الطوعي للتقييم والحكم الذي يصدره المتلقي، والذي طالما يتفاعل معها بشكل تلقائي تفاعلا وجدانيا وحسيا، يرقى أحيانا لدرجة المحاكاة والتخاطر، بالشأن الذي يعد حكم المتلقي فيها هو الاقوى من بين جميع الأحكام، وإذا كان كذلك، فهذا يعني أنها تأخذ مسارها الصحيح والسليم لتصل إلى سلم الاستحقاقات الطبيعية في المجتمع الإنساني المتحضر، المتصف باشاعة العدل فيه والانصاف، أما من يأخذ استحقاقا خارج تلك المعايير في التقييم فإن هذا الشخص ستكون استحقاقاته التي ينالها سببا لإفساده، مثله كمثل المرائي الذي يرش الماء على جسده ليبدو للرائين على أن جسده يتصبب عرقا بسبب الجهد الذي يدعي بذله في عمل ما كذبا وبهتانا ظنا منه وطموحا بان يتمتع بهذا الامتياز المزيف إلى نهاية المطاف! بذلك سيكون حليفه السقوط والانتكاس، فمثله كمثل السابح في البحر، ولكن كم عساه أن يسبح فيه؟” وعندما يغرق سيغرق معه كل من ركب في موجته، وستأخذهم الامواج المتلاطمة جميعا إلى طلاسم الهاوية والسقوط.

والكتابة إذا كانت غايتها تعميق وتعميم صناعة الوعي والتبصرة للأمة وللوسط الذي نعيشه لكي نستمد منه المدد والسداد، فلابأس بذلك وهذا شىء حسن ولااختلاف عليه، مادام أن الكاتب يراعي المصلحة العامة وتطلعات هذه الأمة، ويراعي كذلك احترام عقول المتلقين بجميع مستوياتهم العلمية والثقافية والأدبية والفكرية والأكاديمية، خصوصا إذا كانت المواضيع تتصف بالوسطية وبالواقع المعاش والملموس، وبعيدا عن التأثيرات والتأثرات الحزبية والجهوية والحراكات الطائفية والعصبية والسياسية!.

وأن تأخذ بعين الاعتبار أن موضوع الكتابة والتأليف هو ليس حشر كلمات من خلال أسلوب معين وقالب معين يملى على مدارك الناس وحسب، بل من خلال استعمال أسلوب واقعي حقيقي صادق ولغة واضحة وصريحة ومفهومة من قبل الجميع وتحاكي الجميع، بعيدة كل البعد عن المصطلحات الطلسمية، وبعيدة عن أسلوب الرطانة واللف والدوران أو الكذب أحيانا، كي يكون الموضوع مفهوما ومقبولا يصلح كقاسما مشتركا للجميع، يستسيغه ويفهمه ويتقبله جميع القراء بروح الرضا والقبول ولو بشكل نسبي، إيلاجا بدفع الظلمة عن بعض العقول المستأجرة وعن بعض القلوب التي رانت أو غلب عليها الرين، أو قست لقاء ماتلقته من سموم مشتبهة وأفكار منحرفة ومضللة.
ولنبعد كذلك حالة الاستحمار عن شعوبنا ونخلق منهم شعوبا واعية تحترم المواقف وتحترم ابطال التاريخ الحقيقيين، وتنصفهم وتنقذهم من عمليات الضلال الموجهة ضد افعالهم ومناقبهم، ومن مثالب البخس والإستئصال وسرقة الأدوار، التي ألاصها المنتفعون الزمكانيون عندما كانوا يلحسون فصاع الملوك والامراء وعندما قاموا بكتابة التاريخ بكل انواعه المرحلية والجغرافية بما يتلاءم مع رغبات أولياء نعمهم ، فبدلا من أن يصرف الوقت والجهد لتمجيد أبطال منتحلين ومزيفين وألصاق بما ليس فيهم من الفضائل والمناقب -والذين فرضوا على تراث الأمة على انهم من عظمائها بسابقة فريدة من نوعها قياسا لما موجود في إرث وتراث الأمم الأخرى- وبطريقة الرواية الدينية والتاريخية المدلسة بحسب ارادة الحاكم المستبد في حينه، كإساءة منه لتراث هذه الأمة التي صارت بمقتضى ذلك تؤمن بسرد الأحداث بأسلوب التواتر الاعمى لتبني ثقافة مشوهة كثقافة تأليه وتمجيد اشخاص من فسقة القوم، وذم وسب واستبخاس حق ممن كان من علية القوم وسيدها، علينا وبدلا من ذلك كله أن نسمي الأشياء بمسمياتها، والرجال بإستحقاقاتها وكل يأخذ حقه من التاريخ ان كان خيرا فهو خير وفليقتدى وليتبع، أو إن كان شرا فهو شر وفليفتضح وليهجر.
-وهكذا بقية ثقافات اعراب الصحراء والأمويات والأسرائيليات والقوميات كلها وصلت من غياهب التاريخ وخزعبلاته إلى اعتاب أبواب هذه الأمة على هذه الشاكلة المنكوسة ويجب وضعها في هذا الميزان-.

علينا إذن أن نعي هذه القضية جيدا ونعالجها من خلال طرح الأفكار السليمة الحقيقية والواقعية كما هي وكما حدثت وتفاعلت في زمان ومكان حدوثها بدون زيادة أو نقصان كحركة تصحيحية للتاريخ القريب والبعيد، حتى نكافح ونزيح ذلك الرين الذي علق بتلك القلوب وننير تلك الظلمة التي علقت بتلك العقول.

وهي بمثابة رسالة واضحة إلى كل من جهل حقنا ونال من رموزنا عبر الأجيال التي سبقتنا وامتدت فيما بيننا وبين من سبقونا من أقوام هذه الأمة كابر عن كابر، ليعيدوا النظر بجميع الأفكار المجافية للحقيقة وللإنصاف وللمعقول.

وهذي واحدة من أساليب صناعة الوعي الناجعة في المجتمع شريطة أن يقوم القارئ الكريم  بتحليل واستمراء واستقراء جميع مفردات المواضيع والأفكار التي طرأت على عالمه الخاص والعام ووضعها تحت المجهر لتحليل وتفكيك مقاصدها وإستنباط غاياتها، وليس من الضرورة أو الواجب أن يتعامل معها كتعامله مع نصوص القرآن، بل من الاولى ترك هذا الإستحباب أذا كان يتعارض مع القرآن ومع معتقدات وأخلاق الأمة، فلاعصمة للنصوص المنثورة إلا عصمة القرآن، ولايسمح لأي شخص مهما كانت منزلته أن يستأجر عقله الذي وهبه الله له ليسلك به السبل التي تدخله الجنتين، جنة الدنيا إن صح التعبير وجنة الآخرة ،، ومن أجل ذلك فإن صناعة مجتمع واعي ضمن أمة راقية متطورة انسانيا وحضاريا، التي لا تحركها الآيدولوجيات الرجعية والجبرية المضلة المتخلفة، والأجندة الخارجية المغرضة، نحتاج إلى مزيدا من الصبر والجلد والتوعية والتبصير وارجاع الأمور إلى نصابها أبان عصر صدر الإسلام على عهد النبي محمد(ص)، من خلال طرح الحجج والأدلة المنطقية الدامغة.

ومن هذا المنطلق يجب إعادة النظر في كل ماكتب في صفحات التاريخ وماحملته بطونه في الماضي والحاضر من بدع وأكاذيب وضلالات واوهام، وعلى المؤرخين والأكاديميين وطبقة الكتاب والمثقفين أن يعيدوا النظر بكتابة مفاصل التاريخ بجميع مراحله وفصوله، وتقويمه وتصحيح حركته، وتشخيص الوضاعين وفضح منزلتهم المزيفة، وفرز نصوص الموضوعات التي حشروها من بين ثنايا التاريخ وأحشائه ولفظها للإجتثاث والترحيل، وإفرازها كنواشز بعد اكتمال مرحلة التنقيح والتصحيح، بالاستفادة من عصر “النت” المتصف بالدفق السريع الهائل بكم المعلومات وأستجلابها بزمن قصير قياسا مع بمااستعمل من أدوات الامس التقليدية النمطية والمتواضعة والعاجزة عن خلق مزاج يؤمن بالتجديد لابالتقليد، كما هو عليه الحال بمزاج اليوم الذي خلق في ظل الثورة المعلوماتية الإنترنيتية المتطورة التي وفرت مئات آلآلاف من المواقع المتنوعة ووفرت سيولا جارفة من المعلومات في الخير والشر والمعروف والمنكر، فضلا عن مساهمته في تطوير وعي المجتمعات وتعزيز مداركها نحو استقراء الأحداث بحسب استحقاقاتها بعيدا عن تأثير الخرافة والأسرائيليات.

وهذه الثورة عززت من الاستقلال والوعي الفكري والثقافي للأفراد والمجتمعات على جميع الصعد السياسية والاجتماعية والتاريخية وحتى الدينية المتعلقة بالجانب العقائدي، مالم تستطيع أن تعززه النظم النمطية والبدائية في فترات امتدت لمئات السنين، مختزلة بذلك الوقت والجهود التي كانت تبذل عند ركوب مطايا النظم النمطية والتقليدية، ولكن بعض أنظمة الحكم السياسية القائمة في المنطقة ومناطق أخرى من العالم حاولت وتحاول جاهدة لعرقلة هذا الاستحقاق الذي يفضح الزيف والتدليس الذي وضعه اسلافهم لحجب الحقائق عن شعوبهم التي يريدوا وكما خططوا لها أن تبقى قابعة في حالة الظلام الدامس والجهل والاستحمار والتخلف الفكري والثقافي الذي يديم لهم التربع على كراسي الحكم ويحفظ بقائهم كأهل حل وعقد على رؤوس الأشهاد.
وستظل ثورة نظم المعلومات الإنترنيتية كاستحقاق معلوماتي متطور، داعما لربيع مجمل ثورات التاريخ والسياسة والعقائد السماوية والمذاهب، وليتعاضد مع الرسائل الانسانية نحو نشر الخير والسلام والمحبة والتعايش السلمي والأمن الاجتماعي والواقع المفروض ذي الحقيقة الدامغة والمحجة البيضاء، على حد سواء إذا أحسن استعمالها.

وبمقتضى واقع الاستحقاق النظمي المعلوماتي العالمي الجديد الذي فرض نفسه على الساحة العالمية، إذ جعلها عبارة عن قرية غير مترامية الأطراف من ناحية تبادل المعلومات وتلاقح الأفكار، فاستجدت ظاهرة التسابق بين الأطراف المتناحرة والمختلفة الأقطاب على اثبات وجودها وهويتها والدفاع عن معتقداتها وقضاياها المصيرية وتعزيز نفوذها المعلوماتي، فعلى الكتاب والمؤرخين والمبرمجين والمنظرين والعلماء أن يقولوا قولتهم للدفاع عن تراثنا وتاريخنا ومعتقداتنا وقضياتنا ومقدساتنا ورموزنا وعن خطوطنا الحمراء، ويتعرضوا لدحض الأفكار المعاكسة والشاذة والمكبوتة والخارجة عن الخط الإنساني والإيماني، وكل سباق له عواقب، وعواقبه أن يكون من نتائجه فوز مبين أو خسران مبين،”وفي ذلك فليتنافس المتنافسون” أو لربما يكون الفوز متألقا ونكون فيه على رأس مقدمة الفائزين، ولنا في ذلك حياة، ولاحياة لنا إن كنا من الخاسرين لاسمح الله، ذلك لأن في كل كلمة نقولها فيها لنا شىء من حياة، وفي كل كلمة تقال علينا فيها لنا شىء من موت.
والله يتولى الصالحين.