كنت بعمر لايتجاوز السادسة وانا اراها صامدة وقد حبست دموعها ولم تظهرها وهي تجلس بكل صمت وكبرياء في ذلك الطريق ،ترقب مجيء والدي مجازا من جبهات القتال .. اما وقد حان موعد نزوله حتى تهيأنا لاستقباله بكل شوق وفرح .. انتظرنا حتى صارت الشمس في كبد السماء فعادت وهي شامخة نلوذ تحت كتر عباءتها كأنها تستعد ،او مستعدة لاي خبر قد يأتي به القدر اليها .. ماهي الّا سويعات حتى طرق الباب طارق : يخبرنا بأن من ننتظر قد فارق الحياة واصبح على قيد الشهادة ، حينها لم تنفجر بالبكاء كعادة النساء في مثل هذه الحالات بل زغردت حتى علا صوتها فاستغربنا انا واخوتي لم فعلت ذلك فقد استشهد من كان سندها وسندنا بهذه الحياة !! ؟.. ولم نعرف السر ، واستمرت حياتنا وهي تحنو علينا وتغطينا بجناحيها كما اليمامة مجابهة كل انواع العوز والجوع والتعب والظروف حتى صار منا المهندس والصيدلي والكاتب .. صنعت بوحدتها وقوتها رجالا كبِروا وصارعوا الحياة ولم يعرفوا سر ّ تلك الزغرودة !! حتى صالت وجالت بنا الايام وكأنه حدث من جديد، وهي منحنية على عكازها المصقول فقد كانت تنتظر ذات الانتظار مرة جديدة ،لكن بغير شارعنا الذي ودعناه حينما كبرنا ، كانت تنتظر اخاً لنا ، هوسهُ الوطن وحملِ السلاح بغيرة وشهامة قل نظيرها .. كنتُ في غرفتي اطيل النظر بتصاوير مرّت عليها سنين بهمها وفرحها ومرّها وحلوها ،حتى صكّت مسمعي زغرودة خُيّل لي للحظة انها عادت من نفس زمن تلك التصاوير وكأني احلم .
واذا بها زغرودة بدت قوية لاول وهلة فتباطأتْ ضعيفة يكاد صوتها ينخفظ سريعا ..فعجلتُ النزول متفاجئاً بتابوتٍ لُف بعلم الكرامة يحوي بعضا من اوصال جسد جاسم .. اخي الاصغر الذي تعوّدَ ان يتقاسم معنا كل شيء ..حتى اخذه القدر عنوَة في جرف النصر .. حينها هوَت تلك العجوز الشامخة عليه واطلقت سراح دمعها وهي تقول له :(( ماضاع بيك التعب ماضاع بيك رباي .. يامن جنت ، سلوتي وهسة عفت دنياي )).. حينها عرفنا ذلك السر الدفين ،انها اعطت اغلى ماتمتلك بهذه الحياة وهو ذخرها، ابٌ لثلاثة ابناء ، غيور شجاع ، وابن ورث عنه شجاعة فريدة .. استبشَرَتْ كون القدر اختارها دون النساء،
وكأنه حدث من قبل .