22 ديسمبر، 2024 7:25 م

وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم

وقفة من داخل “إرسي” سلام إبراهيم

منذ أن أسقط الدكتاتور وتنفس الشعب العراقي الصعداء، حدث أن اكتسح سيل من الروايات المكتبات وأرصفة بيع الكتب، ومعظم هذه الروايات يتسم بالسرديات، وجلّ هذه السرديات تأتي على السيرة الذاتية لكُتّابها مما أعاد الجدل حول خصائص الرواية كجنس إبداعي له قوانينه وخصائصة وتقنياته، باستثناء عدد يسير سجلّ حضوراً ملموساً عراقياً وعربيا؛ ويقابل هذه الظاهرة في الشعر ما عُرف بقصيدة النثر، من دون بلورة مفهوم يحدد خصائصها، وزد على ذلك فن الهايكو الذي شكلّ موجة طاغية خلال العقد الماضي، وقد كتبت عنه وعن شعرائه مفصلا متنبئاً أن هذه الموجة ستنحسر وهذا ما حصل!
وضمن هذه الروايات التي أصفها بالروايات الناجحة التي أسبغت على الرواية العراقية ثوبا جديداً وفتحت آفاقاً واقعية جداً لكونها أمينة للواقع هي رواية “الأرسي” لسلام إبراهيم التي طبعت مرتين ، وبين يدي الطبعة الثانية عن دار أمجد والتي تربو صفحاتها على المائتين والخمسين..
قرأت “الأرسي” في طبعتها الأنيقة الثانية، ويطيب لي أن أقول أنها شكّلت فتحاً في الرواية العراقية وحطّمت جميع القيود وجعلت النافذة مفتو حة بلا ستائر للبوح، ووكسّرت أضلع “التابوات” في جميع أنواعها المعشعشة في عقودنا الاجتماعية البالية، كما أنها جعلت طريق تجاوز التابو سالكاً لروائيي العراق في أقل تقدير! بمثلما دشّن المغربي محمد شكري فتحاً في البوح في خبزه الحافي ..
أحسب أن المغاربة العرب عموماً قد باحوأ قبله بدرجة أقل في الجزائر عبد الحميد بن هدوغة في “ريح الجنوب”، وهي أول رواية جزائرية تكتب في العربية، ورواية “تفكك” لرشيد بوجدرة..
على أن خفة اللغة وسلاستها وانطلاقتها في عوالم شتى وتنقلاتها بمحمولها الثر ضمن حقب زمنية متفاوتة اندفاعاً ضمن أبعاد الزمن الثلاثة وتداخلها تارة وتداعيات من الحاضر نحو الماضي واستشراف المستقبل في تارات أُخَر، ومثل هذه الحوادث المركبة عبر الزمن والمكان قد أكسبت الرواية ديناميكية في البناء الروائي والسرد، لذا فهي تتطلع الى فطنة القارىء، ولا أخفي أنني اضطررت الى مراجعات عديدة لبعض الفقرات لتمكنني الربط بين الأحداث، فالتركيز جدُّ ضروري وإلا ضاع الخيط!
وما يستدعي الوقوف عليه هو التصوير الدقيق للمكان بكل تفاصيلة، وهو أمر ضروري سيكتشف القارىء أهميته الفنية لأنه سيكون مسرح الأحداث وبدونه تكون الأحداث هائمة لا تستقر على شيء، فالأرسي (هو نصف غرفة واطئة السقف طالما تستعمل لنوم القيلولة أو لخزن المواد الغذائية) أصبح مأوى يلوذ به متخفياً من الملاحقة م قبل رجال النظام في منزل العمة، هو إذن سجن لكنه إرادي، ستكون التداعيات الذهنية وشحذ المخيال وسيلة للخروج من هذا السجن لاستحضار ما هو جميل رومانسي يبعث على النشوة وقد يحرك ساكناً في حلم منام أو في حلم يقظة! وهكذا كان الحال مع “نادية” التي تأخذ بيده الى عوالم ساحرة.. بينما يكون الرجوع الى عالم الزنزانة معصبة العيون لأيام حين اعتقل لثلاث مرات، ومثله عالم الخدمة العسكرية حيث تأتي ككوابيس الحرب والقتلى والجرحى سريعة سرعان ما يفلت منها!
في الأرسي يحصل أمر غريب جداً، حين تتجسد العلاقة الجسدية بكل تفاصيلها يسمع الهمسات والكلمات الساخنة والتأوهات وما عليه سوى أن يتصور ليتم التوافق بين الصوت والصورة فهي مَنتَجة فنية ترهف أحاسيس القابع في الإرسي وتنتقل ولاشك الى القارىء! حدث ذلك بين زوجين حلّوا ضيوفا في بيت عمته! لا يفصلهم عن الارسي سوى ممر سُلّم قصير لا يتجاوز المترين! وكان الخوف يلازمه رغم أن “الفلم” صوت بلا صورة، فقد فعل فعلته به وأجج لواعج شوق لحبيبته، ذلك أن أي نأمة أو حركة أو عطسه ستفضي الى ما لا يحمد عقباه، وكان بر الأمان حين تتلاشى الأصوات المثيرة فجأة ليحل محلها شخير غطيط عميق!
كثيراً ما يتصور البعض بأن البوح في ما هو حميمي هو عمل تشويق أو هو مجرد ولوج الى عالم مسكوت عنه لكي ينفخ الروائي الروح في النص أو للتخلص من الرتابة. أعتقد أن هذا الرأي لايخلو من صحة ولكن سلام إبراهيم يضعه في مساق الحدث كما أنه بوح فني يمنح المتذوق رؤية جمالية ساحرة! رغم أنها تتكرر في أكثر من موضع!
كانت التداعيات طويلة ومركبة ومتحركة من إطار زمني مكاني الى آخر تحث برمشة عين وقد تُتعب القارىء العجول مالم يرجع بتأنٍ الى النص ليقف على بداية الانتقال وإلا ستفوته أحداث هامة في ثنايا معمار الرواية المتنقل، فهناك أحداث تستدعي الاستفاضة وأخرى تستدعي المرور السريع كما في الخدمة العسكرية أو في المعتقلات وكذلك الحال في حياته وحبيبته كنصيرين في كردستان ضمن تشكيلة الحزب الشيوعي العراقي.. حيث يتعرض الرفيقان الى قنابل النظام حيث القصف بالغازات السامة حين يصف الحالة بإبداع فرضه واقع الحدث! فهمت من سلام أن تفاصيلها ستكون في رويات أُخَر.
لقد قضيت وقتاً ممتعاً مع هذه الرواية التي جعلتني أتفاعل مع أحداثها بين الحزن وبين الفرح وبين التوتر المقلق وبين هدأة الروح واستكانتها في عالم الرومانسيات والعلاقات الحميمة. 19-05-2023