22 ديسمبر، 2024 3:39 م

وقفة مع العوار … 14 تموز الباب المشرعة للعنف والدكتاتورية !

وقفة مع العوار … 14 تموز الباب المشرعة للعنف والدكتاتورية !

تمضي السنين و (المنظومة والعقل السياسي والثقافي العراقي والعربي – السائد) باستثناء القليل غير المؤثر ، تواصل المراوحة في دائرة مغلقة ، بينما العالم يواصل الحركة الى الأمام .
من مظاهر المراوحة ما نراه من تكرار الكتابة عن النظام الملكي في العراق ونظام 14 تموز ورموزه وبنفس الصيغة والأسلوب الذي تغلب عليه الرطانة والخطابة المنبرية والعاطفة حد التقديس ، و المقارنة والمفاضلة بين السيء والأسوأ وليس بين السيء والجيد ، وكالعادة بتوجيه الاتهام والحط من قيمة الآخر المختلف ، والتوقف عند ثنائية تجاوزها الزمن فهل 14 تموز ثورة أم انقلاب ؟ كل هذا دون التوقف للمراجعة وتقييم ظواهر الحدث ونتائجه السلبية التي نعيشها حتى اليوم ، وربما … الغد !

ودون الدخول في مماحكات لا معنى لها اليوم عن الثورة والانقلاب ، أشير هنا لشيء مما كُتب عن أكثر مخرجات 14 تموز سوءا وتأثيرا على مصير العراق والعراقيين ، والتي يهدف أغلبية القائلين بالثورة سواء بقصد أو غيره ، الى التغطية عليها ، أو التقليل من تأثيرها وأهميتها ، وهي ظاهرة العنف والدكتاتورية . كُتب الكثير عن 14 تموز لكني في هذه العجالة فضلت أن أعرض شيئا لبعض من كتب وكان قريبا وساهم في إحداث تلك الفترة العصيبة ، وليس من معارضي النظام ، القوميين وغيرهم . وقبلها وبالمقابل لابد من التأكيد أني لست من دعاة الملكية ، واختلف مع من يريد أن يزيّن النظام الملكي ما قبل 14 تموز ويريد للعراقيين العودة إلى الوراء إلى النظام الملكي ، وأتفق تماما مع ما كتبه الشاعر فاضل العزاوي في كتابه الرائع – الروح الحية جيل الستينات في العراق – حيث ذكر أن (( النظام الملكي السابق في العراق يتحمل مسؤولية الدمار الذي حل بالعراق تاليا…)) ص 69 . ولاشك أن عيوبه على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي واجتماعي ، وديمقراطيته التي يجري التبجح بها كانت شكلية ، مع ما رافقها من عنف وقمع ، أدت بالتالي لسقوطه السهل في 14 تموز 1958 .

والآن ، جدلا حتى ان كان 14 تموز ثورة وليس انقلاب ، وكما كتب العزاوي ، فقد (( انتهى العرس الثوري الذي دام شهورا قليلة فقط …)) ص 61 وما تبعه أفرغ صفة الثورة من محتواها وحوله الى انقلاب عسكري . ويذهب العزاوي أبعد حين يكتب بوضوح (( إن تقييم ما حدث عبر أربعة عقود من الدكتاتورية في العراق ينبغي أن يبدأ بيوم 14 تموز 1958 …)) ص 69

أما ما ورد في كتاب – عقود من تاريخ الحزب الشيوعي العراقي – فهو بأجزائه الثلاث جهد ووقفة مهمة وموثقة للكاتب عزيز سباهي ، عن أكبر وأهم تنظيم سياسي ساهم في احداث تموز ووقف مع رأس النظام حتى النهاية . وقد وردت كلمة الدكتاتورية مرات كثيرة لوصف النظام و(الزعيم الأوحد) ، منها على سبيل المثال وليس الحصر (( في 8 شباط 1959 ، كتـب عامر عبـد الله ، عضـو المكتـب السيـاسي للحزب يومئذ ، مقـالاً افتتاحيا في جريـدة الحـزب المركزيـة (اتحـاد الشـعب) ….تضمن المطالبة بإشراك الحزب الشيوعي العراقي بالسلطة…. وكانت هذه المطالبات قـد جـاءت بتوافق مع الاستعداد الذي أبداه رئيـس الـوزراء في تلك الأيـام ، لإجراء تعديل وزاري في حكومته وإدخال بعض الشيوعيين فيها ، على أن لا تكـون مشاركتهم تمثيلا للحزب في السـلطة »أي دون أن يتنازل عـن سلطاته الدكتاتوريـة الشـخصية إلى الحكومة الائتلافية« )). ج2 ص349
و (( وبقدر مـا كان هـؤلاء يسعون أكثر فأكثر لمـداراة عبـد الكريـم قاسـم ، كان هـو يسعـى أكثر في طريـق الدكتاتورية الفرديـة و يتعـرض مناضلو الحزب ومؤيديه إلى المطاردات والاعتقال والاغتيالات )) . ج2 ص394
و (( كلما راحـت الأيام تبتعد عـن 14 تموز 1958 ، كانت ملامـح دكتاتورية قاسـم العسـكرية تتضح أكثر فأكثر . وإذا كانـت خصال عبـد الكريم قاسـم في الحكـم لـم تبرز إلى العيان دفعـة واحـدة ، وظلت انتصارات الثورة ، في اشهرها الأولى ، تغطي علـى نزعاته العسـكرية الفردية ، وانعدام المنهجية لديـه في الحكـم ، وكرهه للنقد والمناقشة ، وادعائه بمعرفة كل شيء . ولكـن مـع تعقـد الأوضـاع في البلاد ، وتفاقم المؤامرات، وازدياد الدسائس الاستعمارية ، وتنمر القـوى الرجعية، شرعت هذه الصفـات المدمرة لدى قاسـم تتكشـف ، وبانت أُميّته السياسـية ، ونما عنـده الخوف مـن الخصـوم ، وراح يتجاهـل مـا تريـده غالبية الشـعب )) ج2 ص401
وما ورد هنا (( في آخـر رسـالة يكتبهـا سكرتير الحزب الشيوعي العراقي ، حسين أحمد الرضي ، إلى اللجـان المنطقية والمحلية للحزب ، بعنـوان »ملاحظات أولية« ، قـال بشأن انقلاب شباط :
»إن انقلاب (الـردة) في 8 شباط ، قـد بدأ فكريا ًوسياسـيا ًواقتصادياً منذ أواسط 1959 ،حينما تصرف قاسـم بما يشبه الاستسلام للقوى السـوداء التي أخذت تسترجع المواقـع واحـدا بعـد آخـر ، في الجيـش والدولة وفي الحيـاة الاقتصاديـة والمجتمـع . ومنذ ذلك الحين ، فـإن الخط البياني لتفاقم التهديد الرجعي ، وتفاقم أخطار الـردة قـد تموج لعدة فترات صعوداً ونـزولاً ، ولكـن كخط عـام بقـي يتصاعد . وفي 8 شباط 1963 أسقطت الرجعية الفاشية السـوداء حكم قاسـم واستولت علـى الحكـم «.)) ج2 ص438

أعود للتذكير بصواب ما توصل إليه فاضل العزاوي بالتجربة الشخصية حين كتب : (( لقد أدركت بربرية الدكتاتوريات العسكرية واكذوبة انسانية ثورات الجنرالات في فترة مبكرة من حياتي . ولكنني ارتكبت خطأ كبيرا عندما اعتبرتها شكلا من أشكال الصراع بين قوى التقدم والرجعية ، لا علاقة له بالجوهر الإنساني للثورة .)) ص47
أما عن الفوضى والعنف وازدراء القانون ، فلن اتطرق لمجزرة قصر الرحاب وتصفية العائلة المالكة في اللحظات الأولى للانقلاب ، ولا لأحداث الموصل وكركوك ، التي تمثل وصمة عار لنظام (الثورة) وزعيمها ، وكل المشاركين فيها ، ولا للصراع بين (العساكر الثوار) ! قادة (ثورة) 14 تموز وتصفية بعضهم للآخر ، لكن سأشير إلى ما ذكره إسماعيل العارف في – أسرار ثورة ١٤ تموز وتأسيس الجمهورية في العراق – والعارف هو من الضباط الأحرار و(هو الذي أدخل قاسم الى تنظيم الضباط الأحرار سنة 1954) وهو صديق مقرب ومؤيد لقاسم وأحد وزراء حكومته ، وكتب عن الفوضى التي لم تقتصر على الشارع بل شملت وحدات الجيش أيضا (( في تلك الفترة ذهب بعض القادة من الضباط ضحية الفوضى … اذ قُتل آمر كتيبة المدفعية المقدم جلال أحمد في البصرة على يد جنوده … ثم علقوه على مدخل باب الثكنة . كما هاجم بعض الجنود آمر الانضباط في الناصرية وكادوا يقتلونه لولا أن تمكن البعض من انقاذه باعجوبه )) ص182 ، ويستمر العارف في نفس الصفحة ويكتب عن حادثة مماثلة ، حيث تظاهر الجنود في الفوج الثالث الموجود في معسكر الوشاش والتابع لقيادته ومحاصرتهم للضباط ونيتهم بالفتك بالمقدم علي غالب المحال على التقاعد … ، وكتب في الصفحة 191 عن التظاهرة أمام بيت جاره العقيد شمس الدين عبد الله آمر المجلس العرفي الأول وأن بعض المتظاهرين كان يهاجم الدار وهم مسلحون بالعصي والهراوات والحبال !
وكتب عن التجاوز على كرامة الناس في محكمة المهداوي (المحكمة العسكرية العليا الخاصة) التي سميت محكمة الشعب (( ثم التفت – يقصد عبد الكريم م.ن – إلى الضباط المحيطين به وقال لهم : خذوا العقيد اسماعيل وأطلعوه على مؤسساتنا الثورية …. فاصطحبني العقداء المهداوي وأمين والحصان …. دخلنا الى احدى القاعات …. جلست الى جوار العقيد الركن هاشم عبد الجبار الذي كان يعربد بأعلى صوته ، وهو رئيس هيئة التحقيق عن القضايا التي تحال إلى محكمة الشعب . لم يمض وقت قليل حتى نهض هاشم من مكانه وراح يعتدي بالضرب على أحد الضباط ومد يده الى كتف الضابط ومزق حمالة رتبته وألقاها على الأرض وداسها بقدمه … )) ص 179 ، ويكمل العارف فيكتب عن المشهد في قاعة المحكمة (( انفجر النظارة بالصياح والأهازيج والتصفيق والهتاف لمدة استمرت أكثر من ربع ساعة تبعها بعد ذلك قصائد شعبية ومنظومة ألقاها بعض النظار تخللتها هتافات تصم الآذان )) .ص180
ودون قصد منه يعرض لنا العارف طبيعة الحكم الدكتاتوري ، من خلال أحد مظاهر تقديس وعبادة الشخصية ، وهي ظاهرة ملازمة لكل سلطة دكتاتورية على مر التاريخ ، فيكتب (( ولم يسم زعيم عربي قبله بذلك العدد الكبير من الأسماء . فسمي الغضنفر – ابو دعيّر – الزعيم الأوحد – الزعيم العبقري – الزعيم الحبيب – المنقذ – بطل تموز – مفجر الثورة – الاسد الهصور – الرجل الرجل – صانع التاريخ – البطل المغوار – ابو الاحرار – عملاق تموز – ابن الفقراء – ابن الشعب البار – نصير العمال والفلاحين – حبيب الملايين والى غيرها من الأسماء العديدة الأخرى . وقد ساهم في طرح تلك الألقاب عليه أيضا المسؤولون عند إلقاء خطبهم وعلى رأسهم رئيس محكمة الشعب العقيد المهداوي أثناء سير المحاكمات التي كانت تعرض على شاشة التلفزيون في بغداد )) . ص 436

 

والخلاصة ما عرضته آنفا هو غيض من فيض ماكُتب ، وفي وقائع الأمس واليوم ما يشير الى أن الأنظمة التسلطية والدكتاتورية ، ومنها نظام 14 تموز ، حين تقوم ببعض الانجازات ، وان كان بعضها يبدو تغييرا في البنية الاجتماعية/الاقتصادية ، فهي لمصالحها الخاصة ولأهداف مرحلية ومؤقتة ، ولأسباب أخرى ليس من بينها المصلحة الحقيقية للناس ، التي لا يؤمن بها المستبد ولا يعير لها وزنا ، رغم كل مفردات التبجح بالمواطن والوطن . ولهذا نرى أغلب المنجزات تتباطأ ثم تتوقف وتتراجع وتهمل بعد انتفاء الحاجة إليها أو بعد نهاية الدكتاتور ، وهذا ما حصل في نظام عبد الكريم قاسم ، وكل الأنظمة الدكتاتورية من قبله وبعده ، وبالامكان مراجعة منجزات هتلر وموسوليني وأردوغان وعبد الناصر والأسد والقذافي وصدام …. الخ .
وكما قيل فالأعمال بخواتيمها !