23 ديسمبر، 2024 6:17 م

الهجرة ظاهرة اجتماعية عرفتها البشرية منذ ظهور الانسان القديم، حيث انها كانت ملازمة للانسان فرضتها عليه الظروف الاجتماعية والسياسية والحروب والمنازعات وانتشار الاوبئة والامراض، حيث كانت الجماعات البشرية تتحرك من مناطق اقامتها نحو مناطق اخرى يتحدد قربها او بعدها وفقاً للامكانيات المتاحة لذلك الانسان (محمد أعبيد الزنتاني ابراهيم، الهجرة غير الشرعية والمشكلات الاجتماعية)، وتعد الهجرة جزءاً من التغيرات الاقتصادية والاجتماعية المتأصلة في عملية التحديث، وهي تعد ايضاً جزءاً من النظريات الوظيفية للتغير الاجتماعي والتنمية التي تحاول ربط النظريات بالاتجاهات التجريبية الماضية، ومعدلات وانماط الهجرة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمرحلة التحديث والعوامل الديموغرافية (هاشم نعمة فياض، مفاهيم نظرية في الهجرة السكانية)، وتندرج تحت الهجرة عدة انواع، فهناك الهجرة النظامية التي يدخل فيها المهاجر بلد مهجره دخولاً يلتزم فيه بكل قوانين الهجرة في البلد المضيف، وهناك الهجرة القسرية التي يضطر فيها المواطن الى هجر موطنه قسراً بسبب ظروف قاهرة، مثل الكوارث الطبيعية او النزاعات والحروب، وهناك الهجرة غير الشرعية او السرية او غير النظامية بكل مسمياتها ( احمد اسماعيل، قراءة في ظاهرة الهجرة غير الشرعية)، وهذا النوع من الهجرة تثير قلقاً بالغاً نظراً للمخاطر التي يواجهها المهاجرون الضعفاء انفسهم وللاثار التي تترتب على هذه الظاهرة التي تزعزع الاستقرار في بلد المنشأ والعبور والمقصد (خيذر جميلة، الدوافع السوسيواقتصادية المسببة لظاهرة الهجرة غير النظامية عند الشباب).
ووفق تلك المعلومات السابقة الذكر تُعرف الهجرة في علم السكان بكونها الانتقال بشكل فردي او جماعي من موقع الى اخر، بحثاً عن وضع افضل، اجتماعياً، اقتصادياً، دينياً، سياسياً، وفي علم الاجتماع تعرف بانها تبدل الحالة، الاجتماعية كتغير الحرفة او الطبقة، وبحسب تعريف الامم المتحدة الهجرة غير الشرعية هي انتقال السكان من منطقة جغرافية الى اخرى، وتكون عادة مصاحبة لتغير محل الاقامة، ولو لفترة محدودة .(سفير نوار، التعامل الاعلامي مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية).
الانسان له قيمة لاتستقيم تنمية الوطن بدونها، ومن أتم الحكام سمعاً من يسمع صمت البشر قهراً كما تقول ” ريم عبدالحليم “، وكل انسان في الواقع يدرك جيداً بانه مخلوق فريد، وأنه لايشبه شيئاً آخر في العالم، وأنه ما من مصادفة غريبة سيمكنها أن تجمع لمرة ثانية في وحدة مثل هذا التنوع الملون الرائع كما هو، فما يزيد الانسان تفرداً هو وعيه بقيمة وجوده داخل العالم المعيش، وذلك ما يدفعنا الى ان نتحمل مسؤوليتنا عن وجودنا وندافع عنه تجاه انفسنا، ولهذا نريد ان نكون سادة حقيقيين في هذا الوجود ولانسمح أن يشبه وجودنا مصادفة طائشة، فالانسان مجبر أن يعيش حياته بجرأة وخطر، خاصة ان الانسان سيفقدها في كل الاحوال( محمد غنام ، سؤال الانسان في الفلسفة الوجودية)، وعلى ذلك الاساس تكمن القيمة الوجودية الفعلية للوجود الوجودي الانساني ليس على مستوى الاسرة والافراد فحسب انما على مستوى المجتمعات والاوطان ايضاً، ولكن حين تتصادم تلك القيمة الفعلية للوجود الانساني باللاممكن، او المستحيل، او عوائق البقاء ضمن حدود الكرامة، وقتها تتحول القيمة الفعلية للانسان الى حالة من التمرد المشبع بالفوقية التي تشبع بها من خلال فهمه لقيمته الوجودية، وهنا تأتي البدائل التي سيبحث عنها للحفاظ على قيمته الفعلية ضمن الوجود البشري بشكل عام.
تلك البدائل تتمثل بالدرجة الاساس بالهجرة غير النظامية – الشرعية – واللجوء من دول الجنوب الى دول الشمال، فالنزعات الاجتماعية للهجرة تزداد يوماً بعد يوم في المجتمعات، في ظل الصورة الجاذبة لامكانية تحقيق الطموحات الاقتصادية والاجتماعية في اوربا وامريكا، تلك النزعات التي تثير تساؤلات انطولوجية وثقافية ضمن واقع الانسان الذي يرسم معالم حياته اليومية بمكونات ظروفه الخاصة ، واوضاع كوكبية واقليمية خطيرة للغاية ( عبدالحق طرابلسي، الهجرة ومسائلات الحياة اليومية للانسان)، فالهجرة كظاهرة كوسموبوليتانية تعيشها غالبية المجتمعات العالمية، وتدرك اثارها الديموغرافية والهوياتية قد تشكل احدى اهم الظواهر الانسانية، حضوراً في وقتنا الحالي، وحين يقرر الانسان الهجرة بطريقة قانوينة او غير قانونية، انما يثير قراره العديد من المسائلات الاخلاقية والثقافية والسياسية، لاسيما ان ذلك الانسان يحيا يومياً وهو يتعذب نفسياً واجتماعياً، تحكمه نظم ثقافية ودينية واسرية وسياسية ديكتاتورية لاسيما في مجتمعاتنا الشرق اوسطية والشرقية بصورة عامة، فيصبح عقله سجيناً مقيداً، وصوته خافتاً لايسمع، يطبق عليه كل فنون الاستعباد الاجتماعي، والاستلاب الفكري، فالدكتاتورية والاستبداد سلوك يعيشه في اسرته ومدرسته ومكان عمله ومجتمعه وفي علاقاته الخاصة، وفي نمط معيشته، لاسيما في ازمنة اللااستقرار المعيشي، ليكون في النهاية مشهداً سياسياً يتشرب من كل تلك المستودعات نظام اخلاقي استبدادي، ولأنه يفتقر لادنى شروط الحياة البيولوجية البسيطة، ويعجز حتى على الاكل والشرب واللباس، وهو في نفس الوقت مقيد ووعيه زائف من خلال ما يشاهده يومياً من خطابات دينية وسياسية شعاراتية واعلامية رديئة تعمل على تسكين وتخدير العقول والهمم نحو التغيير الاجتماعي على الرغم من كل اوجه وجوانب الفساد التي يلاحظها يومياً، بل قد يتورط فيها، وامام كل تلك المشاهد اليومية والصورة الاجتماعية للحياة اليومية لذلك الانسان، يمكننا ان نفهم وندرك كيف اثرت تلك المتحولات في سلوكياته، التي تعي اصلاً قيمته الوجودية، فاصبحت البدائل – الهجرة – وسيلة يمجدها كهدف اجتماعي ثقافي سياسي انساني يسعى بشتى الطرق لتحقيقه ( طرابلسي ، دريدي، الهجرة ومسائلات الحياة).
يعتبر الفساد واللاعدالة من احدى اهم المؤثرات على سلوكيات الانسان، فالفساد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، هي احدى اهم الصور الاجتماعية والاشكال انتشاراً في مجتمعاتنا، لاسيما تلك التي تتعلق بالسلطوية، والطائفية، والمذهبية، والتحزب الاعمى، والفساد الاداري المالي، وتلك التي تتحكم بمُقدّرات المجتمع، فحين ينتشر الفقر بين عامة الشعب، وتتدهور صور المعيشة، وتغيب فرص العمل، وتكثر المشكلات الاجتماعية بكل تمفصلاتها، ويبقى الانسان ذا القيمة الوجودية ينتظر هبات الحكومات حتى في استحقاقاته الطبيعية والتي هي ادنى حقوقه، و يقابل كل ذلك ظهور طبقة تتحكم بمصادر الاموال على جميع الاصعدة، وتتباهى امام انظار الشعب بمكتسباتها غير الشرعية والتي هي على حساب حقوق المواطن، مما يظهر جلياً للانسان الواعي بقيمته الوجودية مدى تلاعب تلك الطبقة بنفسيات الاخرين وبمسار حياتهم لاسيما انهم يعتمدون بصورة واضحة اللاعدالة او اللامساواة في توزيع مقدرات الشعب، والوطن ويستغلونها بشكل لايتلائم مع القيمة الانسانية للانسان، ولا للقيمة التي يحملها الانسان لقضاياه الهوياتية، والانتمائية.
على ذلك الاساس لايمكن عد الهجرة امر غير اخلاقي، فالهجرة كما اكد كل من كاستل وميلر ليست اختراع نهاية القرن العشرين، ولا حتى حديثة في اشكاله للرأسمالية منذ العصور القديمة، فقد هاجر الانسان في جميع انحاء العالم للبحث عن لقمة العيش من اجل البقاء، ولذلك وبناءً على ما ذُكر اصبحت المصطلحات الحديثة تطلق على الهجرة ضمن نطاقات وثقافات متعددة، فمصطلح الحرقة الذي اصبح يستخدم على نطاق واسع، باعتبار ان الهجرة تعتمد على علاقات متعددة، بقدر تلك العوامل المختلفة، والتي تم بالفعل تحليلها الى حد كبير، فالحرقة تعني حرق ضوء احمر، وذلك بالتشابه مع غير الشرعيين الحراقة اولئك الذين يتجاهلون القوانين او لايحترمونها (رابح بن علي، الحرقة – الهجرة غير الشرعية – الشعور باليأس ام البحث عن المكانة الاجتماعية)، وذلك ما يثبت ان الهجرة لها دوافع تختلف مع قيم وشخصية كل فرد في سياق اجتماعي تاريخي معين، فالبحث عن الامن، او التنمية الشخصية، او التحسين المالي كما يقول كل من تارتاكوقسكي وشوارتز، تعد من اهم المظاهر والدوافع التي تجعل الانسان يبحث عن بدائل لوجوده الاجتماعي، لاسيما ان الحق في الهجرة والتنقل من الحقوق التي تكفلها المواثيق والصكوك الدولية لحقوق الانسان، والدول ملزمة باحترام حقوق المهاجرين في ابعادها الانسانية والحقوقية والامنية والتنموية كما يؤكد ذلك ” محمد فتوحي” في دراسته المواثيق الدولية، وعلى ذلك الاساس اصبح الشباب – الناس بصورة عامة – ينظر للهجرة غير الشرعية على انها بوابة المستقبل الزاهر والطريق نحو جنة الاحلام، او الضفة الاخرى، بغض النظر عن الشهادة العلمية او المكانة الاجتماعية، وعلى ضوء ذلك اصبحت سياقات الهجرة تختلف من حيث الدوافع والاسباب، ولكن مع تلك المتغيرات والمتحولات والدوافع يظهر في الافق الدور السلبي الذي تقوم به وسائل الاعلام سواء في تشويه القيمة الفعلية للانسان المهاجر، او استغلال معاناته للترويج الاعلامي، فضلاً عن استغلاله اعلامياً لاغراض سياسية – حزبية – لاسيما من قبل الغوغائية الاعلامية المنتمية للاحزاب التي تعارض السلطات دون أن يكون لها اي وجود فعلي مؤثر للعملية التغييرية التي يسعى الانسان جاهداً للوصول اليها، لقد اثار الاعلام بصورة عامة في تناوله لظاهرة الهجرة الكثير من الجدل لدى اهالي الحراقة المفقودين وغيرهم، حيث طغى الجانب التجاري الترويجي من خلال التركيز على السبق الاعلامي في التعرض للاخبار المتعلقة بتلك الظاهرة، الامر الذي اثار في بعض الاحيان غضب الكثير من المثقفين المستقلين غير المحسوبين على اية جهة حزبية سلطوية، وبذلك ظهر الاعلام بعيداً عن دوره في توجيه الرأي العام، وتشكيله على اعتبار انه السلطة الرابعة، او كما يقال بانه مرآة المجتمع التي تعكس قضايا المجتمع ومشاكله،على الرغم من ان الوظائف والتسميات المتعلقة بوسائل الاعلام ليست تحصيل حاصل، ولا مطلقة، بل هي نسبية باختلاف البيئات السياسية والقانونية السادة في المجتمع (سفير نوار، التعامل الاعلامي مع ظاهرة الهجرة غير الشرعية)، واستكمالاً للدور السلبي لبعض الوسائل الاعلامية، فإننا نجدها تسخر كل امكانياتها لبث الفوضى بين الشعوب، محاولة منها كسب مصداقية الجهات التي تدعمها من جهة، وكسب المصداقية ضمن فئات الرأي العام ولو على حساب نفسيات اصحاب الازمة نفسها، وبالتالي فإن الادوار الاعلامية التي تقوم بها تلك الوسائل الاعلامية – الجهات الاعلامية – لاتقل عن العنجهية السلطوية السياسية المسببة بالدرجة الاساس في الهجرة، ناهيك انها تبتعد عن الحقائق الاساسية في افتعال الضجعة الاعلامية، وتكون اداة رخيصة لسياسات الدول المعنية بالهجرة والازمة، لكونها لاتبحث عن الاسباب الحقيقة للسياسة التي تنتهجها الدول التي يتم قصدها من قِبل المهاجرين، ولا صراعاتها مع المنظومة الدولية المصلحوية، وبذلك تختلط الادوار السلبية للسياسة الحكومية التي لاتعيش الواقع من خلال ملامسة هموم ومشاكل المجتمع من جهة، والادوار السلبية للاعلام الزائف الوهمي القائم على الانتقاص من السلطوية، والضحية في كل زمان ومكان الانسان.