19 ديسمبر، 2024 7:09 ص

بيتٌ كبير من طبقتين تكتظ بالغرف. وكلّ غرفة تنطوي على عائلة من فردين حتى سبعة. وأنا ما شأني بهم، كنتُ عابر سبيل وضعتني مصادفة ثمة، لكني وجدتُ بينهم أصدقاء فارقتهم أبان طفولتي وشبابي. هنا الزمنُ مطاطٌ يتلاقحُ مع كلّ ظرف أو مناسبة، والحياةُ فيه آخذة ً مجراها تصنع لكلّ أحد ضروراته الآنية. لم يكن لي غرفة ٌ تؤويني مثل الآخرين، بل اروح واجيء من دون ان ادخل غرفة، امدّ لهذا وذاك يد المساعدة. ووجدتُني أغسل الممرّ الطويل امام أبواب الغرف، أنظف الحمامات، انشر الثياب المغسولة على حبال سلكية في الشرفة الطويلة المشرئبة على الشارع. ولطالما احتسيت الشاي في المقهى الواقع امام المبنى. قال إسماعيل صديقُ الدراسة ومن ساكني احدى تلك الغرف:/ هوخان بُني على طراز حديث، وساكنوه ضيوف مؤجلون يمضون وقتاً ويعودون الى مساقط رؤوسهم / بيد أنى اعترضتُ: / الستَ أحد المستأجرين تسكن فيه من سنوات؟ / نعم، ردّ: نحن بضعُ عائلات اتخذناه سكناً دائماً، لكن الغالبية اغراب يجيئون ويعودون الى ديارهم، وما أكثر مشاكلنا ومشاكلهم، يسرقوننا ونسرقهم. واللغو والصراخ يعلوان ويهدآن في كلّ آن. بيد أني استغرب وجودك هنا، هنا مكانٌ لا يُناسب مكانتك، وانت استاذٌ معروف تقوم بتنظيف البلاط والمغاسل، حين اراك منحنياً على خرقة المسح أكاد اتفطر وجعاً وخجلاً / العملُ ليس بعيب، اجبتُ / انت لا تفهمني، صرخ محتداً، عد من حيث جئت، الى عملك وبيتك وعيالك / انا الآن في ضاحية من الحلم، لا اعرفُ كيف جئتُ ومتى أرحل، اتركني استأنفُ عملي وعدْ انت الى شؤونك كأنك لا تعرفني/ فجأة سمعتُ صراخاً من احدى الغرف، خففتُ تجاهه وطرقت على الباب، وترامى اليّ صوت المرأة: / جاءني المخاض، أسرع واطلب اليها ان تجيئني، انها في الغرفة رقم 17 في الطبقة الارضية . بعد دقائق كنت امام باب امرأة المخاض فتسربت القابلة الى الداخل ولم ابرح مكاني حتى سمعت صراخه وصراخ القابلة: انه ولد، وصرختُ بدوري: فليكن اسمه / زُحل / وسمعت فرحتها وهي تصيح: يا له من اسم جميل. ثم عدتُ أكمل بقية واجبي. بعدئذ قمتُ بمساعدة زوجين تزوجا حديثاً وأستأجرا غرفة في اقصى الطبقة الأرضية. اول مرّة ادخل احدى الغرف. هي واسعة من قسمين، يفصلهما حائط. وعلى اليسار مطبخ صغير وثلاث نوافذ تشرف على فضاء فسيح. وقبل ان استرد انفاسي التقاني شخص يحمل سلة كبيرة فيها لحم ورزٌ وسلق وبصل ومقدونس وسُماق ، سألني: / أبوسعك ايصالها الى غرفة 25؟ / بكل تأكيد، فأنا هنا لتلبية حاجات الساكنين. تناولتُ السلة وارتقيت السلم ماشياً في ممر الشرفة الطويلة حتى نهايته. طرقتُ الباب فأطلت عليّ زوجة إسماعيل: / يا للمفاجأة صاحت / تناولت مني السلة. وقالت /: تعال تغدّ معنا في الواحدة ظهراً / سأحضرُ / ثم مضيت عائداً الى الطبقة السفلية لأكمل ما تبقى من العمل.
 في المقهى الملحق بالمبنى المطل على الشارع العام كنت احتسي استكانة الشاي واتصفحُ احدى الصحف اليومية وقف الى جانبي إسماعيل، قلتُ له اجلس، فاقتعد مقعداً الى جواري: / جئت ارافقك الى غرفتنا ونتغدى، اعرف أنك من زمن بعيد لم تتناول دولمة السلق / صحيح، لكني سأتناوله في الحلم / ضحك إسماعيل: / فما الفرق؟ انه الطعام نفسه نتناوله في اليقظة / وفطن كلانا الى سخف  حوارنا، وبدأ يحسو من استكانة الشاي ويتصفح الصحيفة الأخرى.
كانت صينية الدولمة ساخنة فملأ كلٌّ منا صحنه. وقبل ان اضع شيئاً في فمي وجدتُني في جبهة أخرى لها حجة ٌواغراء، او تجيئك على الرغم منك …………. الآنَ، أنا مدرسٌ عدتُ الى سني التعليم ولي طلبة ٌ جادون ومشاكسون، لكني اتدبّر أمري بخبرتي ورجاحة عقلي. تمرّ ساعة ُ المحاضرة كرمشة عين. ثم اراني انتقل الى قاعة دراسية أخرى وانا طالب أجد مكاني فيها بصعوبة، ويعود مدرسُ التأريخ والجغرافية، كنتُ أكره درسه، لكن المصيبة انه دخل علينا ليمتحننا. لم يكُ لديّ لا ورقة ٌ ولا قلم. فجأة وقف الى جواري فوضع على طاولتي ورقة طويلة تنطوي على ثلاثة سؤالات والاجابة عن اثنين / لكني لا املك قلماً وهذا اولُ يوم لي / تذمّر، مدّ يده الى جيبه وناولني قلماً، ثمّ تركني منتقلاً الى بقية الطلبة، اعرفُ أني مهما ابدعتُ في الإجابة فلن يمنحني سوى  ستين درجة . انهيتُ الإجابة عن السؤالين الثاني والثالث وتركتُ القاعة. غبئذ ٍ عرفتُ ان الإجابة عن السؤال الأول اجباري.  لذلك اطلقتُ لنفسي العنان وغادرتُ المكان.  ثمّ صرتُ في صقع آخر لأرى احدَ امراء الخليج جالساً في قاربه ويضع عاملٌ مصري فنجان القهوة امامه لم يلتفتْ نحوي ولا كلمتُه، وعند الرصيف يقفُ عسكري يغرس سارية في حفرة مخصصة لها وفي اعلاها راية. لم أمعن النظرَ في معرفة هويتها فأنا عابر سبيل التقط صور ما يتمرأى لي بعشوائية. وقبل ان اعبر الشارع الى الرصيف الآخر مرّت عربة يجرّها حصان بنيّ، وفي المقعد الخلفي امرأة كنتُ اعرفها. وسمعتها تناديني باسمي: تعالَ انظم اليّ. هززتُ لها كتفي اظهر لها عدم رغبتي في مصاحبتها؟ ظلت العربة تجري ثم تنعطف يساراً وتختفي. كانت الأمكنة والأزمنة تأتي وتروح كما لو كانت صفحات كتاب مصوّر. لكني اعرف أنى ما زلت هناك اقلب أوراق الزمن ولو احتواني زمنٌ او مكانٌ آخران….
ال” ص ” في بيته، أنا وابني ضيفاه ، كان يتمدد على أريكة مخملية حمراء قبالته جلسنا كلانا ، نقلّب بعص رسوماته ونُبدي بصوت خفيض اعجابنا بها ،هي خليط من بوسترات قديمة . استغرقنا وقتاً في معاينتها . ثمّ مدّ يده وتناول من رفّ ٍ قريب انبوبَ مقوى طويلاً ، أخرج منها لوحة جدارية ملفوفة عن طفلة تلعب بفردة حذائها ، مسثغرقة في ألوان هادئة، لكنّ السيادة كانت للون الأزرق . بعد قليل تنحنح ومدّ يده الى رفّ آخر فسحب ملفاً ضخماً ينطوي على عدد كبير من أغلفة كتب رسمها في اوقات متفاوتة . واستغرق النظر اليها وقتاً طويلاً ، اثناء ذلك وضعت زوجتُه امامنا فنجاني القهوة .ولا أذكرُ اني شربتها بل اختفى هو والصالة الصغيرة وجميع كائناتها من رسومات الجدران والتحف الكرستالية والأثاث  . ورمت بي مصادفة ٌ ما الى صقع بعيد كنتُ خلل سوق شعبي تعمه الفوضى واللغط وضجيجُ صبيحة أول يوم العيد . كان ثمة زحامٌ وبضائع رديئة وفاكهة بائرة ومتسولون هنا وهناك . السوقُ فوق مكان مرتفع . كنتُ اروم النزول عبر درجات نحو ازقة المدينة التي تتمرأى لي سطوح منازلها وازقتُها واناسُها يتحركون هنا وهناك . امسك بيدي بائع التين : / خذها كلها بسعر رخيص / انها فاسدة اشم رائحة حموضتها / بوسعك أن تصنع منها مربى لذيذاً / أنا عابر سبيل حالم وليس لي بيت يؤويني ، بعد قليل لن أكون هنا / أف ٍ من اكاذيبكم ، الجميع يبتكرون حججاً للتهرب من الشراء / توجهتُ تُجاه الدرجات المفضية الى أحشاء المدينة ، لكني اختفيتُ ، بل اختفت خلائق حلمي . وفي مكان آخر كنتُ وبضعة اشخاص نشاهد فيلماً محظوراً عرضُه . بيد أن خصاماً وقع بين اثنين وتفاقم فاضطر شاغل الفيلم الى قطع العرض . وخرجنا بعد أن هدأ الخصمان واعتذرا لنا ولبعضهما . أخيراً عدتُ طفلاً الى أيامي الأولى في مدرسة الشرقية وأنا تلميذٌ في الأول الأبتدائي . كانت المعلمة تعلق على السبورة بوستر الضفدعة والثور . قلتُ لها مازحاً من زمن بعيد سمعنا ورأينا هذه القصة . ففيها دعوةٌ مُبطنة الى التخاذل وعدم الاحتجاج . اقبلت تجاهي محتدة ومحتدمة غضباً ، امسكت باذني اليسرى ورمتني خارج قاعة الدرس وسط تندر زميلاتي وزملائي واوصدت في وجهي الباب
………………………………………….       
الى أين ساذهب الآن ؟  وقبل أن اكمل بقية السؤال أغلق الحلم بابه ورماني الى اليقظة اتقلب في دفء فراشي واستغرقتُ اتملى البصيص الخافت الذي يُنيرُ ارجاء غرفة النوم ……

أحدث المقالات

أحدث المقالات