18 نوفمبر، 2024 1:01 ص
Search
Close this search box.

وفاءاً للشهيد بطرس هرمز جركو

وفاءاً للشهيد بطرس هرمز جركو

لعقود وسنين طوال كان الحكام يشغلون الدنيا خطباً وضجيجاً بشعارهم العتيد: اننا جئنا لخدمة المواطن. ومع الوقت ، تخضع العبارة للأمتحان، فتارة يلقون له الفُتات، وأخرى بعضاً مما يجعله رافعا الحمد والشكر لهم، لكن وبمجرد ما ان يكتشف هذا (الحاكم) بأن لهذا (المواطن) رأياً او فكراً مخالفا له رغم انه حق مشروع، فأنه ينقلب الى ضبع شرس ، لاينتقم منه فقط ، بل يمتد احياناً لعائلته وعشيرته وملّته وحتى لأبناء قريته. معظم هؤلاء الحكام انتهوا من حياتنا وتأريخنا، لكن ليس قبل أن يتركوا جروحاً عميقة ونازفة لليوم.

لا يكفي رفض سياستهم أو ادانتها، مع إن هذا مفروض لكن المطلوب هو البديل، الذي يحمي المواطن والبلد من مثل هذه العقليات التي تنتج امثال هؤلاء الحكام.

كفى لهذه الأرض ان ترتوي بدماء شبابها وشاباتها اليافعين والطموحين، ولتُفتح كل الأبواب الموصودة حتى ننطلق لبناء الوطن بما يليق بصبر هذا الشعب وتضحياته، بتنوع تأريخه وحضارته، بلون عيون اطفاله وبسمة نسائه.

***

ولد الشهيد بطرس هرمز جركو عام ١٩٤٦ في مدينة ألقوش التابعة لمحافظة نينوى وفي (محلة سينا).

درس الأبتدائية والمتوسطة في مدارسها وكان شديد الذكاء، وغالبا ما كان يُعفى من أداء الأمتحانات النهائية. ترافقت دراسته الثانوية مع انقلاب البعث الأول في شباط ٦٣ (الحرس القومي سئ الصيت) وقيامهم بحملات اعتقالات وتصفيات لكل الوطنيين والديمقراطيين و لمن كان متعاطفا مع ثورة ١٤ تموز أو زعيمها. وقد اتبعوا سياسة العقاب الجماعي وأرهاب الأهالي الآمنين بالتنكيل والجرائم البشعة والتهديد بالترحيل او الأعتقال، وحتى بأستخدام اعيان البلدة كأسلوب رخيص للأيقاع بالضحايا. جرى ذلك في مدينة تلكيف ولحقتها ألقوش والكثير من المدن والقرى التي كان يسكنها المسيحيون في سهل نينوى.

بعد انقلاب شباط وامتداد الأعتقالات لقطاع كبير من ابناء تلك المدن، اضطر الوطنيون للدفاع عن انفسهم من عسف السلطات، والمصير المحتوم على أيدي الأنقلابيين، فشكلوا (فصائل الأنصار المسلحة) في الجبال المجاورة وكانت بقيادة الشخصية الوطنية الراحل (توما توماس ـ أبو جوزيف)، وقد وجد بعض الشباب في تلك الحركة أملا بالأفلات من مخالب الحرس القومي.

يستذكرالسيد لزكَن جركو، الشقيق الأكبر للشهيد بطرس ويقول: في تلك الأيام لم تسلم ألقوش من حملات الأعتقالات، ويبدو إن الأمر قد صدر بحق

شقيقي بطرس حيث ارادوا اعتقاله بعد أن نصبوا له فخاً، وعندما شعر بذلك، بادر مسرعا الى مغادرة ألقوش والألتحاق بقوات الأنصار في الجبل ، لكن بقت عينه على المدينة، فقد كان ينزل لزيارة عائلته في بعض الليالي ثم يعود ويغادرها صباحا. ويكمل السيد لزكَن جركو قائلاً: لم تمض الأمور طويلا على هذه الشاكلة، فقد تعرضت المنطقة الى هجوم من قبل الجيش وبمعاونة (الجحوش) وحصلت المواجهات التي لم تكن متكافئة، فأنسحب الأنصار، إلا ان الشهيد بطرس ومعه رفيقه كوريال قد اصيبا في المعركة، فألقي القبض عليهما، وجرى ربط اقدامهما بالحبال وجرهم بين الأدغال والحجارة والصخور من قمة الجبل حتى اسفله وقد استمر هذا المشهد الأجرامي لعدة ساعات، فلفظا انفاسهما من جراء الألم، وتشوهت معالمهما كثيرا، وكان من الصعب التعرف عليهما، لولا ان صرخت أختي انجيل (هذا بطرس) إذ عرفته من (الجراب الذي اعطته له في الليلة الفائتة).

ويضيف السيد لزكَن جركو وقد اعياه ألم الذكريات: لقد مُنعنا من دفنه أو اقامة المراسيم لهُ، حيث دُفن في (مقبرة الغرباء) التابعة للبلدية، لكن رفاقه الأنصار وبتوجيه من القائد توما توماس، أمروا بنقل جثمانه ورفيقه ( كوريال ـ من اهالي تلسقف) في احتفال مهيب بعد سنين، ووريا الثرى في مقبرة الشهداء في الدير العالي (ديرا ائلايا) وهي مسيجة ومزدانة بالورود اكراما لأرواحهم، حيث كنا نزورهم ونقيم على ارواحهم الصلوات . لقد تركت تلك الحادثة جرحاً عميقاً في قلب والدتي وشقيقاتي، اما والدي فقد رحل إثرها بوقت قصير. قتل البعثيون شابا يافعاً وجميلاً وذكياً ولم يزل (١٧) عاما، ليس لأي سبب، سوى لأنهم كانوا عطاشى لدمائنا وللأنتقام من مواقفنا الوطنية .

اما المدرس موفق حكيم فيتذكر تلك الحادثة ويقول: وكأن الذكريات تأبى أن تغادرنا والأيام توقفت، وأشعر برعشة الحدث الجلل. كان الشاب بطرس نشطاً في (اتحاد الطلبة العام) قبل الأنقلاب، وبعد محاولة الأمن اعتقاله، ألتحق بصفوف الأنصار حتى يتخلص من ملاحقاتهم. وأتذكر جيدا ان اليوم كان الأحد الموافق ٥ تموز ٦٣، وكنا مجموعة من (الأنصار) في منطقة مدخل (كَلي الدير ـ سارشتا ـ بئر الماء) جالسين حول البئر وكان الشهيدان معنا نتحدث عن الأوضاع السياسية وما يمكن عمله آنذاك، وللحق أقول، فقد كان (بطرس) فرحاً ومرحاً وملئ بالحيوية والنشاط، اما (كوريال) فكان في غاية البهجة، إذ اوصلوا له (بندقية والده) وكانت من نوع ـ برنوـ وكم كان سعيدا في تلك اللحظات وهو يتلمسها ويداعبها. وحدث في تلك الليلة هجوم مشترك من قوات الجيش برفقة الجحوش (المرتزقة) على مدينة ألقوش، فهرب الأهالي الآمنين خوفا من القتال متوجهين للمغارات القريبة أو للدير العالي، ويبدو ان بعض (الجحوش) قد تسللوا لمناطق تواجدنا ويصحبهم بعض العساكر، وقد عرفناهم بأنهم من عقرة وكانوا يجيدون لغة (السورث)، فحدثت المواجهة ، لكن القائد توما توماس أيقن بأن المعركة غير متكافئة، فأمر بالأنسحاب المنظم، ويبدو ان الشهيدين (بطرس وكوريال) كانا

بعيدين نسبيا، فقاتلا حتى اصيبا ـ إذ عثرنا في موقعهم على خراطيش فارغة وبقع دماء ـ وتبين لاحقا ان الجيش ربط أرجلهم بالحبال وقام بسحلهم حتى القوش، إذ تركوهم في شارع بمحلة (قاشا) قبالة مقبرة ألقوش ويسمى (بثر حويش ـ اي خلف البيوت)، بعدها دفنا في مقبرة البلدية ـ الغرباءـ ثم نقل ثراهم لاحقا الى مقبرة الشهداء.

ثم يكمل الأستاذ موفق القول: انه لأمر مشين ومعيب في طريقة تعامل الجيش معهم، فهو لم يحترم قواعد الأشتباك ولا حقوق الجرحى والأسرى حتى لو كانوا من الأعداء، وبالحقيقة إن ما قام به البعثييٍن يومذاك، لم يكن يمثل إلا عقليتهم وثقافتهم ومبادئهم. لقد كانت قصة استشهاده مؤلمة على كل من عرفه، شابا وسيما يافعا ومتطلعا للحياة.

// من مفارقات الحياة: كانت زوجة الشهيد كوريال( السيدة جليلة شمعون شنا عم ساوة) في ايام حَملها الأخيرة حينما سقط زوجها شهيداً، ويومَ ولدت تؤاماً اسمتهما (كوريال وبطرس) رغماً على الطغاة.

**الذكر الطيب للشهيد بطرس هرمز جركو والعار لقتلته الأوغاد

**الرحمة على والديه “هرمز و راحي” وشقيقه المرحوم “جرجيس” لما تحملاه من ألم

**المواساة لشقيقه الأكبر “لزكَن” وشقيقاته “وارينة وانجيلا وسمرة ـ هيلين ـ” الذين عاشوا تلك المحنة ومازالوا لليوم

**المواساة لأهله وأحبته ولكل من عرفه انسانا رائعاً.

أحدث المقالات