23 ديسمبر، 2024 12:21 ص

وفاءاً للشهيد النصير لازار ميخو أبو نصير

وفاءاً للشهيد النصير لازار ميخو أبو نصير

قد تكون قضية الشهادة من اجل المبادئ السامية أو قضية الشعب العادلة أرقى تضحية يقدمها الأنسان، وهكذا كان الأمر مع الذين دخلوا السجون وعانقوا الشهادة، او من الشابات والشبان الذين التحقوا بحركة الأنصار الباسلة تاركين خلفهم كل مظاهر الحياة وبهجتها في الدفاع عن انفسهم من ارهاب الأنظمة اولاً، ولديمومة نضالهم الوطني لاحقاً، ولعل الذي يعرفهم جيدا، فأنهم لا يهابوا الموت ابداً وصارعوه في اكثر من موقعة، ومن المهم التذكير بأنهم لم يرتضوا ان يسقطوا بأيدي الأعداء الذين كانوا ينتقمون منهم اشد الأنتقام ضاربين عرض الحائط قواعد الأشتباك المعروفة ولهذا كان الكثير منهم يضع جانبا (طلقة) أو (رمانة) في الحالات التي تستوجب استخدامها، هكذا كانوا وهكذا سجلوا ذلك التأريخ، ومنهم كان الشهيد (ابو نصير).

لكن اشد المواقف ايلاماً على المقاتل هي في الرصاصة التي تأتي من الخلف غدراً، وخاصة اذا اتت ممن تأتمن جانبهم!

***

ولد الشهيد لازار ميخو عام ١٩٣٣ في ناحية (مانكيش)، ودرس في مدارسها ، اما الأعدادية فقد أكملها في كركوك، حيث سكن عند شقيقه “داود”. تفرغ بعدها للعمل السياسي الوطني، ومارس العمل ميكانيكيا وأصبح كادرا نقابيا. بعد انقلاب شباط ١٩٦٣، وأشتداد الهجمة البعثية على الوطنيين، التحق بقوات الأنصار ملبيا النداء في تشكيل القواعد الأولى في جبال كردستان لمقارعة الحكم الرجعي، وطبعت تلك التجربة حياته النضالية اللاحقة حيث تحول الى قائد انصاري باسل الى جانب القادة الأشاوس الأوائل “ابو جوزيف” و “أبو باز”.

تحدثت عنه زوجته ، الأنسانة الرائعة والنصيرة (ام عصام) وقالت: كنت قد تعرفت على (ابو نصير) في بغداد في عقد السبعينات، والتقيته لاحقاً حينما التحقتُ بحركة الأنصار، وتوطدت علاقتنا اكثر حتى تم زواجنا عام ١٩٨١، فقد كان أرملا إذ رحلت زوجته (شموني) نتيجة المرض بعد أن اعطته بنت حلوة (انتصار ـ متزوجة الآن ولها ولد وبنت) وشاب وسيم (نصيرـ متزوج الآن)، فيما كان زوجي قد استشهد نتيجة التعذيب على ايدي البعثيين عام ١٩٦٣. ولقصة الزواج حكاية طريفة، حيث كانت مجموعتنا (من ضمنهم الراحل ابو جوزيف والشهيد ابو نصير) في مهمة انصارية ، فعلم ابو جوزيف بوجود (مطران) في احدى القرى القريبة، فقال : لقد حان الوقت لعقد القران رسميا، وفعلا تم ذلك في مراسيم حلوة ، إذ لازلتُ اتذكرانه كان في ٦/آب/ عام ١٩٨١، وقد كانت مجموعة الشهود مكونة من (النصيرتان دروك و أم أمجد والنصيران أبو ميسون وجوزيف توماس إبن الراحل توما توماس)، ولم تكد تمض (٤) ساعات على حفل الزواج، حتى حان موعد استلامي

لمهمة الحراسة في تلك الليلة! كان (ابو نصير) انسانا وديعا ورائعا، وكان رحيله المفاجئ خسارة لحزبه وشعبه.

لقد فقدناه في تلك الليلة (١٥ـ١٦ حزيران ١٩٩٣) عشية انعقاد المؤتمر الأول للحزب الشيوعي الكردستاني، وكنتُ اقوم بتهيئة بعض الأغراض للسفر حيث كنّا مدعوين (أنا ، والشهيد وأبو باز) وكان المفروض ان نغادر في الصباح، لكن في وقت ما من ذلك المساء سمعتُ اطلاق رصاص لم يكن طبيعياً، وكنتُ في بيتنا بمدينة دهوك، وكانت ابنته “انتصار” معي، إذ كنّا ننتظر عودته من العمل، فأنتفضتُ وقلتُ لها دون سابق انذار: انتصار ، لقد قتلوا أباك! وفعلا كان حدسي في محله، فقد كان الراحل قد تلقى العديد من رسائل التهديد المباشرة وغير المباشرة وكان مصدرها بعض المهربين والسراق الذين كانوا يتربصون لأي انسان يعمل بأخلاص ولا يتعاون أو يتعامل معهم. في تلك اللحظات غادرنا البيت متوجهين حيث مصدر النيران ، وكانت الشوارع مكتظة بالحمايات ورجال الأمن، وحينما وصلنا سيارته، وجدناه مضرجا بالدماء، إذ سقط بعد أن هاجمته عصابة من القتلة ، وقد اجهزت عليه بصف من الرصاص اطلق من غدارة كان يحملها احدهم، ومع اننا في العام ٢٠١٥ فيما الجريمة جرت عام ١٩٩٣، الا ان التحقيقات لم تتوصل للقاتل الحقيقي، وهذه بحد ذاتها قضية تبعث على الحزن والألم. مع ان دهوك كانت تحت سيطرة الأحزاب الكردية، إلا ان ذلك لم يمنع سلطات البعث من تسخير بعض المرتزقة وضعاف النفوس من تأدية مثل هذه الأعمال القذرة تجاه الكوادر الوطنية النزيهة ، والسبب الرئيسي يعود للدور الذي كان يلعبه الشهيد (أبو نصير) في محاربة المفسدين والعصابات التي لم تتمكن من اغراءه بالمال، فلجأت الى تصفيته، حتى يخلو لها الجو!

لعل من الصدف السيئة ان يتم اغتيال الشهيد فرنسيس شابو من الحركة الديمقراطية الآشورية وعضو البرلمان الكردي بفارق اسبوع واحد قبيل اغتيال (أبو نصير) وكليهما من ناحية مانكيش.لقد عاش مناضلاً حقيقيا، وذاق مرارة السجون لعدة مرات، وخرج منها منتصرا ومرفوع الرأس على اعداءه الذي انتهى عهدهم الى مزبلة التأريخ، وليس غريباً ان يلقبه البعض (بطل السجون والمعتقلات وقاهر التعذيب) لأنه فعلاً كان كذلك.

أما رفيق دربه القائد الأنصاري (أبو باز) فيتذكره بالقول: كان أول تعارفي بالشهيد عام ١٩٦٣ في الجبل، وبالذات في مقرنا بمنطقة “قيصرية” غرب قرية (باعذرا)، وقد خضنا سوية العديد من المعارك ضد قوات الحكومة التي كانت تهاجم مقراتنا ، كما شاركنا في عشرات المفارز والمهام السياسية والقتالية. أبو نصير بأختصار شديد: مقاتل شجاع بمعنى الكلمة، هادي الطبع ورزين الكلام وذو أخلاق رفيعة وسامية، وإذا حاز الأنسان على كل هذه المواصفات فماذا أقول عنه، بالحقيقة سأختصر الأمر وأقول: هذا (ابو نصير ثاني)! بكل بساطة. لقد جمع هذا البطل خصلتين لم يكن من السهل خلطهما، مقاتل من الطراز الأول، وسياسي من ذات الطراز، وهناك أمر لابد من ذكره وأنا اتحدث عن “لازار”، فلقد نشأنا في

بيئة جبلية صعبة، وتدربنا عليها بالسليقة، فنحن لا نلقب (ابناء الجبل) هكذا، بل لأن هذه حقيقة يعرفها عنّا كل من خاض النضال والصعوبات معنا، ونحن نتفاخر بهذه الصفة التي سخرناها (سوية مع الأنصار الآخرين) لخدمة قضيتنا الوطنية العظيمة. عملنا انا والراحل عام ١٩٩١ في اللجنة الأقتصادية في دهوك، وللأمانة فأننا كنّا نعيش على المخصصات التي تأتينا من حزبنا، ولم نرتض بأن نعتاش على الرشوة او (المال الحرام) كما يقال. ولعلي هنا، والكلام مازال للقائد الأنصاري (أبو باز) اتذكر تلك الأيام العجاف بكل وضوح، فلقد التقيته بأسبوع قبل استشهاده في جلسة عائلية بمنزلي في مدينة دهوك، ورجوته من القلب أن لايخرج في الليل، معرضا نفسه لغدر الجبناء، لكنه كان يصر على مواجهتهم، وياليت لو كانت المواجهة وجها لوجه، لهانت القضية كثيرا، لكن أن يأتيك الرصاص من الجهة التي كنت تأتمنها، او تعتبرها حليفا لك، فهذا أمر مخزي ويعبر عن (جُبن) تلك الجماعات والجهات ليس إلا. ويكمل بألم وحسرة: لقد فقدتُ أخاً ورفيقاً وحبيباً، وكم كنت اتمنى ان يموت بمعركة وأكون بجنبه، وليس بيد جبناء هجموا عليه في الظلام. تعسا لهم ولثقافتهم وقيمهم البائسة .

أما النصيرة (ندى) فتتذكره قائلة: مثلما للكثير من البلدات ابطال وأعلام تفتخر بهم، هكذا نحن ابناء وبنات مانكيش نفتخر بالشهيد (أبو نصير). لقد كان اسمه يتردد كثيرا في بيتنا، فقد كان الصديق المقرب جدا لخالي (أبو فريد)، وكانا كلاهما من اوائل المتأثرين بالأفكار الماركسية والوطنية في مانكيش، كما انه كان من اوائل من التحق بالحركة الأنصارية عام ١٩٦٣، وثانية في نهاية السبعينات بعد خروجه من سجن البعث وتعرضه لشتى انواع التعذيب والأهانة. لقد التقيته في الجبل حينما كان آمر فوج (مرّاني)، وكم كنتُ فخورة وسعيدة به، لقد عاش وناضل ومات كالأبطال.نعم ان خسارته كانت كبيرة، وقد كان من الممكن ان يقدم المزيد لشعبه ووطنه، لكني اؤكد بأن الذي يتحمل المسؤولية الأساسية هو نظام البعث وصدام حسين، فلولا سياستهم الهمجية وتعاملهم القاسي مع الأحزاب الأخرى ما كان للشهيد (ابو نصير) وغيره من النصيرات والأنصار ان يركبوا تلك المخاطر ويعيشوا تلك الحياة الصعبة بعيدا عن المدنية، وعن اهلهم وأحبابهم وعوائلهم، بعيدا عن جامعاتهم ووظائفهم. كان البلد (ومازال الى اليوم) بحاجة لقوانين تنظم عمل الأحزاب وتشيع الديمقراطية وقبول الآخر وترسي مبدأ التداول السلمي للسطة، ودون ذلك فأن الجرح سيبقى نازفا، وآتيا على المزيد من الشباب الذين ننتظر منهم البناء، وليس الموت.

**شهادة: إن الشهيد لازار ميخو كان يتمع بحضور كبير، ووجه معروف سياسيا وفي حركة الأنصار، ولذا فقد كَتب عنه الكثير من الأعزاء، أذكر بعضا منها مع تقديري للآخرين ان كنت قد اغفلت ذكر اسمائهم : في

مجموعة “من اوراق الراحل توما توماس” منشورة في موقع (الناس)، سربسـت مصطفى، ناظم ختاري، صباح كنجي وأنطوان الصنا.

**الذكر الطيب للشهيد الراحد لازار ميخو (أبو نصير)

**المواساة لأبنته انتصار وأبنه نصير وزوجته الغالية ام عصام

**العار لقتلته الجبناء وكل من وقف ويقف خلف كشفهم للعدالة

**النصر لقضيته العادلة من اجل “وطن حر وشعب سعيد”