ما مِن زمان إلا وله سَلاطينه، ولكِن سَلاطين الأمس هُم ليسوا سَلاطين اليَوم، فقد تبَدّلت أحوال السَلاطين بتبَدّل الآزمِنة، وبَعد أن كان كثير من سَلاطين الأمس أهل للسُلطان بأصولِهم وهَيبَتهُم وأتكيتهُم، باتَ أغلب سَلاطين اليوم (إن كان فيهم مَن يَمتلك سُلطان نفسِه) مِن الأدعياء ومُحدثي النِعمة وأصحاب بُطون جاعَت ثم شَبعَت. طبعاً ليسَ السَلاطين هُم وَحدَهُم مَن تبَدّلوا بتبدّل الأزَمنة بَل وعّاظِهم أيضا، فشَتان ما بَين وعّاظ الامس ووعاظ اليَوم. لقد كان أغلب وعّاظ الأمس شُعراء ومُثقفين ورجال دين أحياناً كالطوسي وقِصّته مَع هولاكو وأبو يوسف وقِصّته مَع الرَشيد والمَجلِسي وقِصّته مَع عَباس الصَفوي وغيرهِم، وكانوا يُمارسون الوَعظ الإيجابي لسَلاطينهِم الى جانِب الوَعظ السلبي الذي نقصُدُه بهذا المَقال.أما وعّاظ اليَوم فهُم كأسيادِهِم طارئون نكِرات، ظَهَر بَعضُهُم مِن العَدَم، لدَرَجة يَصعُب مَعَها أن تجد له تأريخاً تستنِد عَليه.
إن أبرز مِثال على سلاطين اليوم هُو المالكي ومَن سَبقه مِن حُكام العراق مُنذ نصف قرن،الذين لم تكن لهُم مِن مُؤهِلات السُلطان سِوى أنهُم أعضاء في مُنظّمات سِرّية سَمّت نفسَها أحزاب، جائت بشَلاتيّة وصِبية مُترَيّفين مِن العَدَم ودَفعَتهُم الى الواجِهة ليُصبحوا حُكاماً للعراق، تُحَرّكهُم أصابع أسيادِهِم، وعُقد خلفتها بهم بيئاتِهم المَريضة التي جاءوا مِنها، وشَحَنات التَعظيم والمَديح التي تأتيهُم مِن وعّاظِهم. واليَوم نَرى المالكي ووعّاظِه يَتعامَلون بعُنجُهيّة وتَخبّط مَع تظاهُرات بَعض المُحافظات العراقية التي ترفع مَطالب شَرعية لكل العراقيين، فهو في حالة هِيستيريا واضِحة خوفاً على السُلطان الذي بَين يَديه، والذي يَبدوا أنه باتَ مُستعِدا للذِهاب الى أبعَد الحُدود للحِفاظ عَليه، كذلك وعّاظِه الذين باتَ ظهورهم على شاشة التِلفاز يُثير الإشمِئزاز، والذين يَبدو أنهُم مُستعدّين للذِهاب أبعَد مِنه للحِفاظ على سُلطانِه، مثل كمال الساعِدي وقمعِه للمُتظاهِرين بساحَة التحرير، وحَنان الفتلاوي وصِياحَها الهستيري لو مَس أحّدهُم سَيّدَها بهَمسة، والذليل عباس البياتي الذي لم يَخجَل مِن التصريح عَلناً أنه يُريد إستِنساخ سَيّدِه وسُلطانِه وولي نِعمَتِه. إن بقاء المالكي في السُلطة يُؤمِّن لأمثال هؤلاء مِن حَديثي النِعمة ما يَتنعّمون به مِن إمتِيازات وأملاك لم يَحلِموا بها في يوم مِن الأيام، فمِنهُم مَن تمّت ترقِيَته لخدَماتِه الجَليلة مِن واعِظ الى وَزير كعلي الأديب، أو الى نائِب لرئيس الجُمهورية كخضير الخزاعي، لذا نراهُم أكثر هيستيرية مِنه في الدفاع عَن قراراتِه وأفعالِه، وأساتِذة بالتزييف والكذِب وتشويه الحَقائق وتَحويل الحَق الى باطِل والعَكس، بل باتوا يُصَورون لسَيّدِهِم بأنه صاحِب كاريزما قيادية نادِرة ومُختار عَصره وحَكيم زمانِه وزَعيم البلاد الافضَل وخَيار الشَعب الاوحَد.
للتأريخ ولكي لانبخَس الناسَ أثمانَهُا البَخسة أصلاً،لابُد أن نُشير الى أن وعّاظ المالكي يَمتازون عَن غَيرهِم مِن وعّاظ السَلاطين بكونِهم يُمَثلون ظاهِرة فريدة ونادِرة في التأريخ السِياسي، إذ لم يَعرف التأريخ إمّعات وتابعين أذِلاء لأسيادِهِم كالمَوجودين ضِمن بطانة المالكي وحَوله مِن الوعّاظ، كما أنّهُم يَتناوَبون في لعِب دَور مُحامي الدِفاع عَن سَيّدِهِم في الإعلام وفق خُطة تبدو مَدروسة مِن جهاز إطلاعات، فبَين فترة وأخرى يُصبح أحّدهُم نَجم الفضائِيات دِفاعاً عَنه، تارة يَكون عباس البياتي أو حسَن السنيد وأخرى حَنان الفتلاوي أو هيثم الجبوري ومَرّة علي الدباغ أو كمال الساعدي أو سَعد المطلبي أو سَعدون الدليمي وأحياناً مَريم رويّس أو عَدنان السَراج أو خالد الأسَدي أو مَحمود الحَسَن والقائِمة تطول، ولكل نكِرة مِنهُم طبعاً أسلوبه وطريقته في الدِفاع عَن سَيّده، لكن يَجمَعهم أمران مُهِمّان، أولهُما وَلائهُم الأعمى لسَيّدِهِم وولي نِعمَتِهم، وثانيهما صَلافتِهم في الحَديث الى حُدود تتجاوز الادَب أحياناً.
إن ظاهِرة وعّاظ السَلاطين ليسَت بالجَديدة على المُجتمع العراقي، بل هي مُتأصّلة فيه بسَبَب طَبيعة أفرادِه القلقة المُرَكبة التي تجعَلهُم عُرضة للسُقوط بفخ هذه الظاهِرة، إذ يَعود تأريخها في العراق لما قبل الإسلام، ورُبما أكثر، لكن للأسَف لاتوجَد مَصادر تأريخية تسعِفنا في تأكيد هذا الأمر أو نفيه. مايُهمنا هو وجود هذه الظاهِرة في تأريخ العراق الحَديث، الذي بَدأ بتشكيل الدَولة العراقية الحَديثة على يَد العائلة الهاشمية مُمَثلة بفيصل الأول وولده غازي وحَفيده فيصل الثاني، الذين رَغم أنّهم كانوا أهل للسُلطان وعِز له، إلا أنّهم لم يَكونوا مُحاطين بوعاظ يُسَبّحون بحَمدِهِم ليل نَهار لأن أبرَز صِفتين لظهور الوعاظ لم تكن مَوجودة فيهم، وهُما جُنون العَظَمة الذي يَظهَر لدى حَديثي النِعمة، وإسباغ العَطايا على الأتباع لشِراء ذِمَمِهم، وحَتى حين كانوا يَمنحون عَطايا بَسيطة لبَعض الشَخصيّات التي تستحِقها، كان أصحابها يُجازوهم بالهجاء كما حَدَث مَع الشاعرين الرصافي والجواهري. بَدأت ظاهِرة الوعّاظ تتّسِع لكن ببطأ في زمَن قاسم والعارفين والبَكر بسَبب إمتلاكِهم للصِفة الاولى وهي جُنون العَظَمة، فظَهَر مِن الوعّاظ مَن وَصَف قاسم بالزعيم الأوحَد وأن صورته تُرى بالقمر ومِنهم مُثقفون وأكاديميون. ثم بَدأت هذه الظاهِرة تأخذ شَكلها الواضِح في زمَن صَدام الذي إمتاز بالصِفتين وعَرَف كيف يُوّظفها لإحياء هذه الظاهِرة المَوجودة أصلاً بتركيبة المُجتمَع العراقي، فظَهَر في زمانِه مِئات الوعّاظ الذين مَجّدوه وأوصَلوه لمَصاف الآلهة. بَعد صَدام تحَول هؤلاء الوعّاظ الى مَديح وتبجيل المالكي سُلطان الزمان ومُختار العَصر والأوان الذي يَحمِل نفس صِفات صَدام ويُحاول أن يُوظف نفس أساليبه للسَيطرة على الناس وشِراء ذمَمِهم وضمائِرهِم، وهُنالك اليوم الآلاف مِنهُم بَعد أن زادَ عَدَدهم طَردياً تبَعاً للزيادة الفلكية لواردات الدولة ومِيزانيّتها. الفرق الوَحيد هو إن صَدام كان يَأخذ جُزءً مِن الواردات لنفسِه، وجُزئاً للبلاد، أما الجُزء الاكبَر كان يَذهَب حَطباً لتَرسانة حُروبه العَبَثية التي أصبَحَت اليوم أثراً بَعد عَين، أما المالكي فهو يأخُذ كل الواردات لنفسِه، ثم يُعيد توزيع فتاتِها على إمّعاتِه ووعاظِه الذين يَملئون الدنيا بكلامِهم الفارغ وحُجَجهم الواهِية، دفاعاً عَنه.
لقد كان لوعّاظ المالكي دَور كبير بصُعود نَجمِه السَريع مِن لا شَيء ولا تأريخ ولا مُؤهِّلات، ووصولِه الى ماهو عَليه اليَوم مِن جاه وسُلطان بفضل تعظيمِهم وتأليههم له، وترويجِهِم لسِياساتِه وتبريرهِم لأخطائِه في الإعلام، وسَيَكون لهُم إن شاء الله دَور بسُقوطه وسُقوطِهِم الذي أتوقّع أن يَكون مُريعاً، خُصوصاً بَعد إقرار البَرلمان قانون تحديد مُدة رئاسة الحُكومة بولايَتين، وهو مايُؤشّر ربما لبداية نهاية المالكي ووعاظه الذين لم يَستوعِبوا فكرة تركِهم للسُلطة وهَرَعوا كالعادة لمَحكمَتهم الإتحادية لنقض القانون وإسقاطِه عِبر اللف والدَوَران على الدستور وتحريفه كما فعَلوا مَع نتائج الإنتخابات البَرلمانية السابقة، وهو ما أتاح لهم حينَها التجديد زوراً وبُهتاناً لولاية ثانية، لكن كيدَهُم سَيَرتد اليهم هذه المَرّة بأذن الله لأن مايُبنى على الخَطأ يَنتهي وَبالاً على أصحابه، وهي النِهاية التي أتوقعَها إن عاجلاً أو آجلاً للمالكي ووعّاظِه.