23 ديسمبر، 2024 12:29 م

في جميع الأنظمة الوضعية لا بد من تقسيم المقامات والحقوق بين الناس ويكون مرد ذلك إلى السلطة التي هي مركز القرار، وهذا المركز هو الوحيد الذي يحق له التمييز بين الرعية على اختلاف منازلهم ودرجاتهم التي تجعلهم يتفاضلون بها لنيل حقوقهم من تلك السلطة، أما أصحاب القرار فلا بد أن تكون منزلتهم فوق منزلة العامة لأجل أن تنظم حياة الناس للحصول على حقوقهم نتيجة تقديمهم ما ألقي على عاتقهم من واجبات، من هنا يظهر أن أصحاب القرار هم الواسطة بين السلطان وبين الرعية لقربهم منه ويكون قرارهم هذا قد استمد سلفاً من القانون الذي وضعه السلطان وإن شئت فقل الدستور، هذا إذا كان النظام يعتمد العدل في تطبيق قانون المساواة بين أتباعه، فإذا ثبت هذا فلا بد أن يكون مثالاً مصغراً للقانون الإلهي الذي سيكون أصحاب الأعراف هم أصحاب الأمر النافذ فيه، من بعد هذه المقدمة نريد أن نعرف من هم أصحاب الأعراف:
أصحاب الأعراف سورة كاملة في القرآن الكريم سميت باسمهم، وجعلهم الله تعالى في مكان مرتفع عن الخلق يوم الحشر يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها ولهم عنده تعالى أشرف المنازل ويعد أمرهم من الملاحم الشائكة في القرآن الكريم فكل هذه المنزلة الرفيعة التي جعلت لهم والمعرفة الخاصة التي ميزتهم عن الخلق في ذلك اليوم، هل يعقل أنهم الذين تساوت حسناتهم مع سيئاتهم هل هذا القول من الحكمة.
 وقبل الشروع في بيان أمرهم أريد أن أبين معنى الأعراف، الأعراف: جمع عرف وهو مكان عال يميز بارتفاعه عن سواه فهو كالمعرف عن غيره ومنه عرف الديك وعرف الفرس ويطلق العرب على كل مرتفع من الأرض عرف وذلك لأن سبب الارتفاع يعرف ذلك الجزء من الأرض ويميزه عن الأجزاء الأخرى التي تكون منخفضة.
 
من بعد هذا التعريف نريد أن نطلع على الآراء التي قيلت في أصحاب الأعراف:
 الراي الأول: هم من تساوت حسناتهم مع سيئاتهم وهذا عليه الكثير من المفسرين.
الرأي الثاني: هم الملائكة الذين لهم القدرة على تمييز أصحاب الجنة وأصحاب النار.
الرأي الثالث: هم الأنبياء والشهداء الذين سبق وأن شاهدوا أعمال الناس وميزوها.
 وقيل غير ذلك ولكن ما ذكرت هو الذي عليه الأكثرون من المفسرين، فلو ناقشنا هذه الآراء نجد أن أصحاب الرأي الأول الذين قالوا إنهم من تساوت حسناتهم مع سيئاتهم لا يمكن اعتماد رأيهم، فالحسنات لا يمكن أن تتساوى مع السيئات لأن الحسنات يذهبن السيئات كما قال تعالى: (إلا من تاب وآمن وعمل صالحاً فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفوراً رحيماً) الفرقان 70. فإن قيل: هذه للتائبين فقط؟ أقول: هذا مردود بقوله: (وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) هود 114. وبهذا يظهر أن الحسنات لا يمكن أن تتساوى مع السيئات وهذا يبطل الرأي الأول الذي ذهب إليه الكثير من المفسرين.
 
أما أصحاب الرأي الثاني: الذين قالوا هم الملائكة فهذا مردود أيضاً لأن الملائكة لا يصدق عليهم مصطلح [رجال] حيث أن هذا اللفظ يصلح لجنس الحيوان فقط أي لمن تكون له أنثى من جنسه، سواء من الإنس أو الجن كما قال تعالى: (وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقاً) الجن 6. أما أصحاب الرأي الثالث الذين قالوا إنهم الأنبياء أو الشهداء فممكن اعتماد هذا الرأي كمصداق وسيمر عليك أن القرآن يشهد لذلك، ومصطلح [الشهداء] لا يعني الذين يقتلون في سبيل الله، حيث أن هذا المصطلح لم يرد في القرآن الكريم بهذا المعنى بل هو من الأشهاد، أما إطلاق لفظ [شهيد] على من يقتل في سبيل الله فهذا اصطلاح حديث لم يكن معروفاً عند العرب.
 
والآن أريد أن أبين المقصود من أصحاب الأعراف بعد سرد الآيات، يقول تعالى: (وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلاً بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون***وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين***ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون***أهؤلاء الذين أقسمتم لاينالهم الله برحمة أدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) الأعراف 46–49.
 
وكما هو ظاهر فإن هذه المنزلة الرفيعة لأصحاب الأعراف لا يمكن أن تكون لمن تساوت حسناتهم مع سيئاتهم وكذلك لا يمكن أن تكون للملائكة أو الأطفال أو الهالك قبل الفترة لأنها منزلة عظيمة تجعلهم يبدون نوعاً من التوبيخ لأهل النار ومقارنتهم بأهل الجنة ومعرفتهم للفريقين كلاً بسيماه، فهذه المكانة لا تتأتى إلا للأولياء من عباد الله تعالى وقد بين ذلك تعالى في موضع آخر بقوله: (ومن أظلم ممن إفترى على الله كذباً أؤلئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) هود 18.
 
ولو جمعنا قول الأشهاد هذا مع آيات الأعراف لوجدناه ينطبق معها تمام الانطباق لأنهم وصفوا بأنهم مشرفون على الفريقين أصحاب الجنة وأصحاب النار إضافة إلى معرفة كلا الفريقين بأوصاف تميز بعضهم عن بعض وهذه المنزلة لا تتأتى لأناس من سائر البشر، ثم أنهم ينادون أصحاب النار بقولهم [ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة]. كل هذا يفيد بأن لهم خصوصية تميزهم عن أهل الجمع، ثم أنهم يكلمون أهل الجنة ويحيونهم بتحية أهل الجنة ويكلمون أهل النار بطريقة تقريعية وتوبيخية تناسب ما هم فيه من الذل والهوان، وفوق كل هذا نرى أن أصحاب الأعراف يمتلكون الأمر النافذ في توجيه أهل الجنة إلى منازلهم بقولهم: [أدخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم  تحزنون]
 
كل هذا الذي ذكر لو جمعناه مع متفرقات القرآن الكريم لعلمنا أن أهل الآخرة أزواج ثلاثة كما جاء بيانهم في سورة الواقعة وهم أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة والسابقون بالقرب منه تعالى. فلا يمكن أن نأتي بفئة رابعة من لدنا وننسبها للقرآن الكريم فإن ذلك يعد من الافتراء على كتاب الله تعالى. علماً أن القرآن الكريم يبين لنا أن الأزواج الثلاثة الذين ذكرناهم آنفاً يتأرجحون بين ثقل الموازين وخفتها ولا توجد ثمة منزلة ثالثة كما قال تعالى: (فلنسألن الذين أرسل إليهم ولنسألن المرسلين***فلنقصن عليهم بعلم وما كنا غائبين***والوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون***ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون) الأعراف 6–9. وهذه الآيات تُبين أن المرسل إليهم هم الذين تتأرجح أعمالهم بين الثقل والخفة أما الرسل فهم في المنزلة الرفيعة التي تجعلهم أشهاد على المرسل إليهم كما في المثال الوضعي الذي في مقدمة المقال، وهم فقط الذين يعرفون أحوال المرسل إليهم بواسطة العلامات والامارات التي كانت ظاهرة لهم أثناء مسيرتهم مع أقوامهم، وهؤلاء ومن سار على نهجهم من المقربين والأولياء هم من يصدق عليهم أنهم أصحاب الأعراف.