هنالك ثوابت قرآنية لا تتغير رغم التغيرات الزمنية والاختلافات الخارجية الطارئة إلا أن التغيير يطرأ على طريقة الخطابة فقط، ولهذا نجد أن الخطابة تختلف من عصر إلى آخر وحسب الأماكن أيضاً ويراعى فيها نوع الحشد ومراحل العلم التي تتفاوت بين جيل وآخر، ومن هنا فقد يعذر الرعيل الأول من المفسرين الذين شغلوا أنفسهم وشغلوا الآخرين بطرحهم القصصي حتى أصبح طرحهم للحقائق القرآنية من المسلمات الجاهزة التي اعتاد عليها العقل دون نقاش أو تمحيص، والذي يخالف الإجماع في قضية متفق عليها يعد من الخارجين والمارقين على دين الله أو على الطريقة التي تتبعها الفرقة التي ينتمي إليها.
وخير شاهد على قولي هذا هو الإتفاق على الأسماء التي علمها الله تعالى لآدم وعجز الملائكة عن معرفة حقائقها والتي جاء ذكرها في ملحمة هي الأعظم من نوعها بين ملاحم القرآن الكريم، وعند تأملنا لتلك القصة التي أشارت إلى ذلك الموقف الرهيب الذي كان أشبه بالمباراة الكبيرة التي حسم الإنسان نتائجها، عند تأملنا لها فإن الخيال يذهب فيها كل مذهب مما يجعل كل جيل يحلل تفاصيلها وما يتفق ونوع العلم والاكتشاف الذي يناسب عصره، وهذا العلم الخفي الذي توصل إليه الإنسان يدل على أنه المخلوق المكرم بأعظم نعمة خلقها الله تعالى ألا وهي نعمة العقل.
والعنوان الذي وضعته للمقال هو المدخل لتلك الملحمة المفصلة على أتم وجه والتي جاءت أحداثها على نسق مترابط يشد أولها آخرها كما قال تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين***قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم***قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبئهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون) البقرة 31-33. وفي القصة مباحث:
المبحث الأول: يظهر من سياق القصة: إن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها ولم يعلم الملائكة ثم عرضهم على الملائكة دون آدم علماً أن الآيات التي سبقت المقطع المبحوث فيه تشير إلى اعتراضهم بأن المخلوق الجديد سوف يفسد في الأرض ويسفك الدماء وأنت خبير بأن الله تعالى لم يصرح بهذا، ولو سلمنا أن الله تعالى لم يعلم الملائكة الأسماء ألا يعد هذا من الظلم الذي ينزه عنه الخالق [جل شأنه] فأنت قد تنسب الظلم إلى الأستاذ الذي يوجه إليك أسئلة الاختبار الخارجة عن الصفحات المطلوبة، فكيف يليق هذا العمل بالله تعالى.
من بعد هذه المقدمة أقول: إن الله تعالى علم الملائكة الأسماء وكذلك علمها لآدم وتم العرض على الملائكة وعلى آدم أيضاً إلا أن آيات البحث أظهرت الأجزاء مقتطعة في جانب ومشار لها في جانب آخر فما حذف في المقطع الأول أضيف إلى المقطع الثاني لذلك قال تعالى: [وعلم آدم الأسماء] ولم يقل وعلم الملائكة ثم قال: [ثم عرضهم على الملائكة] ولم يقل عرضوا على آدم والدليل قولهم: “سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا” الذي يدل على أنه تعالى علمهم الأسماء مسبقاً وسيمر عليك، أما قوله: “يا آدم أنبئهم بأسمائهم” يدل على أن العرض قد تم على آدم أيضاً، وهذا كقوله تعالى: (يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات) المجادلة 11. فقد حذف “درجة” من المقطع الأول ومن الثاني حذف “منكم” فيكون التقدير: “يرفع الله الذين آمنوا منكم درجة والذين أوتوا العلم منكم درجات” فما حذف من المقطع الأول استدل عليه في المقطع الثاني والعكس صحيح فتأمل. وكذلك نجد هذا المعنى في قوله: (قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة) آل عمران 13. فقد حذف من المقطع الأول “مؤمنة” ومن المقطع الثاني “تقاتل في سبيل الطاغوت” وهذا كثير في القرآن الكريم وقد أطلق عليه العلماء “الاحتباك”.
فإن قيل: لماذا لا يصرح الله تعالى بأنه علم الملائكة الأسماء؟ أقول: إن الله تعالى لا يصدر منه التجريح المباشر فلا يمكن أن ينسب العجز للملائكة وإنما جعل البيان يظهر الأمر بكل تفاصيله المستحقة، وخير شاهد على هذا أن الآيات لم تصرح بأنه تعالى أطلعهم على الفساد وسفك الدماء الذي يحصل عند خلق الإنسان الذي كان سبب اعتراضهم وإلا كيف توصلوا إلى تلك الحقيقة وهم لا يمتلكون اللياقة على الاستنتاج كما سيمر عليك في البحث المخصص لهذا المقال.
المبحث الثاني: إذا ثبت أن الله تعالى علم الملائكة الأسماء فما الذي جعلهم لا يتعرفون عليها أثناء العرض؟ وللإجابة على هذا السؤال أقول: إن الملك لا يمتاز باللياقة التي خص بها الله تعالى الإنسان لأن علم الملك لا يتعدى التلقين المعد لأوليات الأمور دون الخوض في تحليلها وما تؤول إليه نتائجها فهو يعلم الحقائق بواسطة البرمجة “حسب تعبيرنا اليوم” فعند تلقينه إن إضافة العدد أربعة إلى أربعة أخرى فالناتج سيكون ثمانية فإن هذه الحقيقة لا يمكن أن يستنتج منها أن العدد سبعة سيصبح ثمانية بإضافة العدد واحد، لأن المعارف الأولية التي تقود إلى نتائج وتحليلات غير داخلة في المهمة التي خلق الملك لأجلها وإنما هي مهمة ألقيت على عاتق الإنسان وقد كرم بها كما قال تعالى: (علم الإنسان مالم يعلم) العلق 5. فالتحول من الأوليات إلى النتائج والاستقراء لا يمكن أن يتوصل إليه إلا الكائن الذي وهبه الله تعالى قابلية اللياقة العلمية وهذا ما جعل آدم يتوصل إلى معرفة ما عرض عليه في حين أن الملائكة توقفوا عند الدرجة الأولى دون الصعود إلى التحليل والاستنتاج.
المبحث الثالث: في آيات البحث يظهر أن الله تعالى علم آدم الأسماء كلها وهذا يعني حسب ظاهر اللفظ أنها أسماء كل شيء في الوجود، إلا أن هذا لا يمكن لاستحالة جعل اللا متناهي في المتناهي، ودون الأخذ بالتأويل فإن القرآن الكريم قد أوجد لنا الحل لأن الكل قد يراد به الجزء في كثير من الآيات القرآنية وقد تقيد الكليات حسب القرائن التي يشير إليها السياق بدليل قوله تعالى: (ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون) الأعراف 156. وهذا يدل على أن رحمته تعالى رغم أنها وسعت كل شيء إلا أنها سوف تختصر على الذين يتقون والذين صرح بصفاتهم بعد الإبهام وفي حالة توصل الجميع لتلك الصفات فالكلام يؤخذ على بابه ولما كان الغالب الأعم عاجزون عن شروط التقوى فإن الكلية يجب أن تختصر ولا تفهم على إطلاقها.
وهذا كقوله حكاية عن الهدهد: (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم) النمل 23. وكما هو ظاهر فإن ملكة سبأ لا تمتلك عرش سليمان وإنما قيد قول الهدهد: “كل شيء” بما يخص عرشها هي لا عرش غيرها.
وأكثر من هذا بياناً قوله تعالى: (فلما رأوه عارضاً مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم***تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم) الأحقاف 24-25. فكيف الجمع هنا بين تدمير الريح لكل شيء وبين مساكنهم التي أصبحت ترى بعد زوال كل شيء. وكذلك قوله: (كل شيء هالك إلا وجهه) القصص 88. لا يدل على أن الأشياء التي عند الله تعالى سوف تهلك لأن العندية الإلهية باقية منذ أن خلقها الله وأعدها لمهمتها التي لا تنتهي بعد زوال كل شيء كالجنة والنار والعرش والخزائن وغيرها والتي دل عليها تعالى بقوله: (ما عندكم ينفد وما عند الله باق) النحل 96.
المبحث الرابع: كل الذي مر يفيد بأن تعليم الأسماء لآدم لا يراد منه أسماء كل شيء ولو كان هذا الكلام على بابه لمكث آدم في هذا العمل إلى اليوم، وإنما المراد من الأسماء كلها هي أوليات الأشياء التي يمكن أن يتوصل من خلالها إلى النتائج كتعليمنا الحروف للطفل في مراحله الأولى من الدراسة ثم تركه يكون منها الكلمات والجمل، فكل علم من العلوم له أسماء خاصة يتعلمها الطلبة ثم بعد ذلك تفتح لديهم أبواب تلك العلوم، فهذا عين ما حصل في تلك الملحمة العظيمة، التي كانت بمثابة الاختبار للملائكة الذين علمهم الله تعالى أوليات العلوم الأرضية المهمة وكذلك علمها تعالى لآدم إلا أن الذي عرض على الطرفين كان بمثابة نتائج تلك الأسماء وتشعباتها لذلك قال تعالى: “أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين” وهذا يدل على أن الذي عرض ليس الأسماء التي تعلموها مسبقاً وإنما مسمياتها التي ليس لهم سبيل للوصول إليها لعدم امتلاكهم اللياقة التي خص بها تعالى آدم، أي أن مهمتهم قد انتهت عند الأسماء التي تعلموها دون تحليل نتائجها المعروضة على الطرفين، وهذا كالمثال آنف الذكر المضروب بالأعداد أما الإنسان المتمثل بآدم فقد استطاع أن يتوصل إلى تحليل ما عرض عليه وإرجاعه إلى أصله بواسطة اللياقة الفكرية التي وهبها الله تعالى له وقد ظهر هذا جلياً في اعتراف الملائكة وسجودهم لآدم. فإن قيل: الضمير [هم] في قوله: [ثم عرضهم] يراد به العاقل وهذا يدل على أن الأسماء لأناس معينين؟ أقول: ليس هناك دليل في اللغة على أن الضمير [هم] يراد به العاقل والقرآن الكريم يشهد على هذا بقوله تعالى: (والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء إن الله على كل شيء قدير) النور 45.