-” أختي أدركيني ، تعالي بسرعة ، أمك بحالة سيئة جداً “
هكذا انزلقت الكلمات من فم أختي الصغرى عبر جهاز الهاتف ، لتسقط كالرصاص في أذني مترافقة مع صياح هستيري ، لم أصدق أنه صادر عن أمي !
في طريقي إليهم لم أميز هل أنا من يجري أم أن الطريق يجري بي ؟!
أمي التي بالكاد لا يتجاوز صوتها حدود سمع من يجاورها ، وتتقن خنق آهاتها وأسر صرخاتها خلف جدران حنجرتها ، حيث حبالها الصوتية قضبان سجن !
أخبرنا الطبيب الذي يشرف على علاجها أن الألم الذي تشعر به وتتحمله بهذا القدر من الجَلَد كبيرّ جداً يعجز عن تحمّله أعتى الرجال ، فما بالها اليوم تصرخ هذا الصراخ الهستيري؟
أصيبت بسرطان في المعدة قبل بضعة أشهر، استدعى استئصالاً لجزء كبير منها مع ملحقات مجاورة ، أن يعيش الإنسان بلا معدة يعني أن يحسب حساب قطرة الماء عندما تتجاوز جوف فمه العَطِش لتكون سوطاً يجلد الأمعاء إلى أن تنتهي في دورة استقلاب مبتورة في منتصفها !
وكان لزاماً أن يُتبع العملُ الجراحي بعلاج كيميائي ( جرعات).
وصلت البيت وأنا ألهث من صعود الدرج ركضاً مجملةً عدة درجات بصعود واحد ، ذبحني صوتها وهي تصرخ كمن تبكي فقيداً، أشارت أختي إلى الحمّام ، دخلت ، كانت تنظر في المرآة والواضح أنها استحمّت ، تمسك خصل شعر متساقط على المغسلة والأرض وتحاول وضعه على رأسها الذي فقد تاجه !
راعني المنظر !
التفتت إليّ وارتمت بين يدي تبكي بحرقة مزَّقت نياط قلبي،
سنّدتها حتى وصلنا إلى غرفتها، تمدّدت على السرير ، وبحركات متتابعة تمرر يديها على رأسها ثم تخفضهما إلى مستوى وجهها ، تقربها من عينيها وتقول لي : “انظري !انظري شعري يتساقط ، لم يبق منه شيء سأصبح قبيحة ، سيخاف مني أحفادي “.
حاولت تهدئتها وأنا أنادي على أختي كي تساعدني ، لكنها اختفت وصلني صوتها مكتوماً : “نعم أنا هنا”
رحت أجري بسرعة إلى الحمام لأجدها وقد قصّت شعرها الأشقر الطويل ، وفي يدها آلة الحلاقة الكهربائية الخاصة بأبي تمررها على جلدة رأسها البيضاء حاصدة ما تبقى من شعرها بعد أن قصّت خصلاته الطويلة بالمقص ..
وعلى الأرض تمازج اللونان الأشقر والأشيب كسجادة حرير.
فغرت فاهي وقد فر الدم من وجهي ، أشارت إلي أن هوني عليك : ” الآن ستتقبل أمي الأمر أكثر “.
بعد خروجها من الحمام ، بقيت دقائق خرجت بعدها وقد أضفت إلى السجادة الحريرية لوناً جديداً .. بنياً كستنائياً …
بعد أشهر ثلاث .. كنت راقدة إلى جانبها ، أصابع يدي تداعب زغب شعرها الذي نما أشيباً : ” أمي دائماً كنت تعارضيني عندما أصبغ شعري ، كما أنك ترفضين أن تصبغي شعرك أيضاً، رغم أن الشيب غزاه ، لكن الشهر القادم سأصبغه لك، أعدك بذلك “.
المفاجاة أنها حركت رأسها بالموافقة ، وأعقبت بصوت ضعيف :” أنت تصبغينه فقط لتغيّري لونه، إذ لا شيب في رأسك ، ولون شعرك الأساسي جميل جداً ، والصبغة تتعب الشعر وتتلفه ، لذلك أعترض ، أما شعري فأظن أنه أصبح يحتاج الصبغ “
زرتها في مرقدها منذ أيام .. طلبت منها أن تأتيني في المنام ، زارتني .. تاجها الفضي كان يلمع كاللّجين ناولتني أنبوب صبغة ، وأشارت إلي أن أنجزي وعدك .