الوطن والوطنية ليست ثوبا نلبسه وقت نشاء ونتخلى عنه وقت نشاء . والمواطنة ليست بطاقة هوية أحوال مدنية وشهادة جنسية وصورة لعقال أو كفشة شعر وعيون سوداء وابتسامة يتم لصقها في أعلى بطاقة ورقية تصبح صفراء مع تقادم السنين .
الوطنية والمواطنة ليست دين أو عبادة أو تلاوة صلاة أو سفر حج معتاد ، فكل المخلوقات لها وطن – صغير أو كبير – وليس لها دين ، كل الشعوب لها أوطان وتصنع لها ماشاءت من الأديان المتعددة والمختلفة ، لكنها تلتحم داخل دائرة الوطن الواحد والمواطنة الواحدة .
المواطنة والوطنية والولاء وصدق الأنتماء ليست مجرد كلمات نقرع بها الأسماع خلف الميكرفونات وعلى الشاشات وأمام جوقة المزامير والدفوف والطبول . هي ليست لحية طويلة أو قصيرة وليست عمامة أو عبائة جاسبي أو عقال ، وهي ليست الكلام المعاد واللفظ المكرور والهتاف الكاذب الذي نسمعه منذ مئات السنين ، وهي ليست عبارات منمقة حاذقة لرجل دين أو رجل سياسة أو شيخ عشيرة أو كبير قوم .
الوطنية والمواطنة سلوك وذاكرة وتاريخ وتفاصيل حياة والتحام وصراع طبيعي وتجاذب وأحيانا تنافر وتقاطع وهي الفة والتزام بيننا وبين مافوقنا وماتحتنا وماحولنا .
أقول ذلك لأطرح نموذجنا وصورتنا وشكلنا الطبيعي المعتاد :
فلاح وشيخ عراقي لم يعرف من الدنيا غير أن يغرس نفسه وأولاده في الطين وبين النخيل والسواقي ، الآن تواجهك صورته ، عقاله وكوفيته وعيناه الغائرتين بوجه صغير مثلث كالخنجر لاتزالان يقظتين كعيون الذئب ، معلق على الحيطان في أركان بيوت عائلته وسلالته التي أوجدها من العدم في أيام المشاع قبل نشوء الدولة العراقية ، اذ غرس عصاه عميقا في الأرض وقال : هاهنا الدنيا ، وبدأ . فأوجد تلك الواحة التي تتناثر فيها الآن بيوتات عائلة (( العراقي )) هاشم الزيدان وأحفاده ، تأكل وتجني وقت الجني ، وتتذمر وقت التذمر وتمضي بها الدهور حيث غرس هاشم الزيدان عصاه ، يمتد بها الزمن وتمتد بها الجذور موغلة في أعماق الأرض العراقية .
في ذلك الخلاء ، حيث السبخ والملح شق هاشم الزيدان ورفاقه النهر والجدول وقوم الحيطان والأسيجة ، فتربع بسكون ككل فلاح عراقي ينز جيده عرقا وهو ينشيء مساحة حلمه الجميل .
كغيره من أبناء القرى لم يكن هاشم الزيدان متدينا ، وقد علموه الصلاة في آخر أيام عمره وحثوه كثيرا ودفعوه دفعا وبألحاح كبير للذهاب الى الحج لاليكفر عن ذنوب اقترفها ، فهو لايرى ان لديه مايجب ان يكفر عنه من ذنوب ، وانما أصبحت الحجة والذهاب الى بيت الله من مستلزمات الوجاهة التي ينشدها أبناؤه . ولم يكن هاشم الزيدان كافرا أو ملحدا أو علمانيا أو ماركسيا أو وهابيا ، لم يكن شيعيا أو سنيا أو حنبليا . لم يتعلم القراءة والكتابة فهو لم يقرأ القرآن والحديث والتفاسير والصحاحات والفتاوى ، ولم يكن له شأن بذوي العمامات أو اللحى أو البنطلونات والسدارات أو الخنافس أو كل المظاهر . فقد كان هو كما هو – فلاح – شيخ يترأس على قومه ويقودهم الى حيث يرى هو ، له حسناته وفضائله ، وله سيئاته وأخطاؤه وعثراته . كان يلتزم صارما ويمضي بعرف الناس وعرف المجتمع والتقاليد على أكمل وجه ، يراعي كل الحرمات ويتجنب كل نقيصة وكل ماتشوبه شائبة ، يحافظ على سمعة طيبة يصنعها شيخ وفلاح هميم . التزم ، وأورث سلالته الألتزام بالعيب والحياء وحقوق الناس على الناس وواجبات الناس على الناس ككل الآباء والشيوخ العراقيين الذين (( يخافون الله ويحسبون حسابه )) وهم لم يقرؤا من القرآن ولو سطرا واحدا .
كان عراقيا حتى العظم ويلفح وجهه ملح وسموم أرض العراق من قبل أن يحصل على بطاقة الأحوال المدنية أو شهادة الجنسية العراقية ، عراقي بصلصال النخاع وبالعظم والدم ، صفات تم توارثها طبيعيا وجينيا ودمويا وتناسلها لدى سلالته .
حين تزاحمت الأحداث على البلاد بفعل السياسات والساسة والأطماع والطامعين والسمسرة والدسائس والحياكات والبرامج ، أصيب هاشم الزيدات بسلالته ككل مصاب العراقيين ، فقدم الأولاد والمقاتلين والشهداء في الجبهات والحروب المتعددة التي حطت وزرها وتوزر العراقيون بسوادها ، ذهب له الأولاد أسوة بكل أولاد العراقيين الذين ذهبوا ، وبقي أولاده ونساؤه صابرين محتسبين ككل العراقيين والعراقيات اللائي مزقت الحروب والويلات وجوههن .
لم يتقافز هاشم الزيدان ، ولم يعلم أولاده التقافز بين حبال السماسرة والمدعين ، لم يدع المجال لأي منهم بأن يركب ظهر العفريت ، فهو رجل الجدول والنهر والشجرة والواحة الخضراء وخطوط القصب والبردي وهم ثمرة التمر والتين والتفاح ، لاشأن له بظهور العفاريت وتقافز القرود وبرامج السماسرة .
وفي تطورات الصراعات السياسية الأخيرة والأحداث والأجندات الخارجية التي عصفت بالعراق بفعل سماسرة السياسة وأزلام التجارة بالدم العراقي وتزييف الدين والوجدان العراقي وتجار الدم المستباح ، قدم هاشم الزيدان على سارية العلم العراقي وعلى ظل ناصية عصاه التي عرزها يوما وقال : هاهنا ، خمسة شهداء أبطال في أحداث وقتال كان الغرض منها تمزيق واحة وانتماء هاشم الزيدان وغيره من العراقيين وخلال فترة وجيزة جدا ، هم بالتتابع كل من :
1- الشهيد منتصر عدنان حسين هاشم
2- الشهيد الرائد مجيد عبدالله هاشم
3- الشهيد أنور رحيم عبدالله هاشم
4- الشهيد كرار محمد علي هاشم
5- الشهيد علي حسين علي هاشم
كل الأسماء تنتهي بهاشم ، ويتم تطريزها في الظل الوارف لعصا ذلك الشيخ الفلاح العراقي .
لقد قدمت هذه العائلة ، وليدة ذلك المواطن القروي ماتحتم عليها من أمر ، بعراقيتها ومواطنتها ووطنيتها الغير قابلة للبحث والنقاش ، بشموخ وأناة وعزة وصمت . . لم تزايد ، ولم تدعي ، ولم تطالب أحد ما برد أي جميل وفضل ، لم تطلب سوى سلامة العراق ، سلامة العلم العراقي وساريته ، سلامة الظل الوارف المورق الأخضر لعصا جدهم هاشم الزيدان التي غرزها عميقا في تلك الأرض الخالية وسط السبخ والملح والهجير فأينعت وأورقت وأثمرت .
لم يلبس المرحوم هاشم الزيدان وعائلته ثوب الوطن على سبيل الأستعارة المؤقتة ، ولم يدعي الوطنية على سبيل الضرورة المصلحية والنفعية ، فهي هنا مورقة خضراء على سجيتها بلا تكلف أو ميكروفونات أو شاشات أو حقائب دولارات ، دائمة على صدقها ووطنيتها التي لاتأتي من قراطيس الكتب أو المطابع والأحبار وانما تولد من عزيمة عصا فلاح تورق وتزهر وسط الملح والسبخ وتصنع الواحات الخضراء . دائمة مادامت الدنيا دنيا ، ومادام العراق عراق ، ومادامت التضحية فردوس مضيء ، ومادام الوطن ليس ثوبا بالأمكان تركه أو التخلي عنه ، ومادمنا نرى السماء بغيمها وصحوها من هنا ، من واحة هاشم الزيدان .
هذا رمز من ذاكرتنا البطلة ، واحد من رموز عراقية كثيرة ومتعددة الوجوه يستوجب الحديث عنها كثيرا ومطولا في مواجهة ذاكرة الهزيمة والتركيع التي يراد تدجيننا بداخلها .