الأوطان تشيدها السواعد والهمم والأفكار , والتصورات الحضارية الواعدة المتطلعة لغدٍ أفضل وآفاق مشرقة للأجيال المتوافدة إلى نهر الحياة الفياض , المتدفق بأمواج العطاءات وتيارات الإبداعات الإنسانية الأصيلة.
الأوطان لا تشيدها الشعارات الفضفاضة , والخطابات الفارغة , والأحزاب المتهالكة على الكرسي والسلطة والقوة والظلم الخلاق الفتاك الذي ترمي بتبعيته على الآخر , وهي تضع على رؤوس قادتها تيجان “هو”!!
في مدينتنا كان مكتوبا في أعلى واجهة مدرسة إبتدائية للبنات وباللون الأبيض بيت شعر يقول” وطن تشيده الجماجم والدم…تتهدم الدنيا ولا يتهدم” , وقد حفظناه وما فهمنا فحواه , ومع الأيام عرفنا مَن قائله , ومغزاه , وفي واقع السلوك البشري أن الجماجم والدم لا تبني أوطانا بل تخربها وتمزقها , فهل رأيتم بناءً مشيدا بالجماجم والدم؟!!
وبرغم الرؤية السطحية للبيت الشعري وتفسيره بطريقة كونكريتية , فأن مذهبه الدمار والخراب , بأي الوسائل والإقترابات حاولت قراءته , ومن الأصح أن يكون ” وطن تشيّده الجماجم والدم …تتقدم الدنيا ولا يتقدم” , وهذا ما أكدته الأيام بويلاتها وصراعاتها وخسائرها العدوانية الفادحة.
فما يدور في الواقع العربي برمته يشير إلى لغة الجماجم والدم , وكأن الدنيا بلا أوطان , وأن العرب فقط ولوحدهم أصحاب أوطان , وأن عليهم أن يسفكوا الدماء ويدحرجوا الجماجم , وما بنوا أوطانهم ولا أشادوا ما هو فخر وعز لهم , بل دارت عليهم دوائر السوء والبهتان والضلال , فخرّبت عمرانهم وهجّرت إنسانهم ومزّقت لحمة وجودهم العزيز , حتى صاروا فرقا وجماعات وفئات وأحزاب ومذاهب وكينونات تقاتل بعضها وتحسب ذلك نصرا , بل أن بعضها صار من طقوس عبادتها أن تقتل العربي وتذيقه الويلات.
أي أن العقلية لا تزال مقيدة بالجماجم والدم ومتعبّدة بمحرابهما , وما تأملت العقل وإستثمرت بالأفكار وشمرت السواعد ونادت حي على البناء , وحي على خير العمل الكفيل برفعة الوطن وسعادة المواطن.
وهذا مأزق حضاري مروّع سقطت فيه المجتمعات العربية على مدى عقود ولا تزال في قاعه , الذي تساهم بتعميقه أنظمتها الجمجمية الدموية القاسية التفاعلات والمنفذة للمصالح والأجندات , ولا يمكن الخروج من نفق المهالك والتداعيات , إلا بتغيير معنى ومفهوم الوطن والوطنية , وما هو السلوك الوطني المعاصر , وما معنى الوطنية والمواطنة الصالحة.
إنها ثوابت وسلوكيات يقوم بها الأفراد وتتحقق نتائجها في الأمة والشعب , وبها تتجسد صورة الحياة الممثلة لأي مجتمع يسعى بإرادته فوق التراب.
فهل سنبني أوطاننا بالسواعد والعقول , ونتحرر من قيضة الجماجم والدم؟!!