ليس للّوحة وطنٌ، مثلما ليس للّون وطن. تولدُ اللوحةُ لتبقى، بقيتُ مذْ رسمها الفنانُ البدائي على جدران الكهوف. وظلّت شاخصة حتى الآن. الّا أنّها لا تحفظُ اسم صانعها، ولا تتنكّرُ له وتنساه. بخلاف الكينونة الحيّة التي تولد لتموت. لكنّها مُخلّدةٌ فيما تتركه من ابداع.
انّها حياةٌ وجماد في آن ٍ.خرساءُ لا تنطقُ، بيدَ أنها تجعلُ رائيها يستنطقها ويُفسّر سرّها ولغزها . هي قصّةٌ تحكيها الباصرة للمتلقي. ألوانٌ تشتبكُ، تعزفُ سيمفونيتها الخاصّة، وكلُّ حيّز له منطقُ في التفسير. سردُ حكاية ما يخفى علينا وما يتمرأى للرسام وحدَه. والريشةُ لسانٌ مُعبّرٌ له بلاغتُه ودروبه في المجاز والتورية، وايقاعٌ له دوالٌ واشارات. وفي مُكنة أيّ أحد قراءته وتأويله. وهي خارج اسوار التسطّح والهشاشة والمتعة الرخيصة، باقية على الجدار والذاكرة. خلاصةُ العُزلة والصبروالدأب والجوع ، تتضافر لخلقها جنونُ مُخيّلة، ومُغامرة، وخرقٌ للمتوقع والجاهز. انفجارُ لحظة متعوية بلا نهاية.ثمّ، هي حرقٌ للسائد المبذول، وبذل ساعات من العمل. واستقدامُ خزائن الذاكرة من قيعان الطفولة والمستقبل والاندثاروالحُلم ،وتغريب الحقيقة وجرّ الغرائبي الى حضن الواقع ، ورجعٌ قريبٌ أو بعيد للمستور المُغيّب. هي أيضاً جهد
شخصيّ فرديّ يتكيء على مُقاربة تراثية وحضارية وعقلانية ، عودٌ الى المُعتاد واللامعتاد ، بل اشتباكٌ مع الغيهب والتماهي واللامنظور واللامتوقع. كما انّها خوضٌ في الضوء والعتام والعدم والسيرورة والصيرورة المختلفة الأشكال. فاكهة زمن مجهول، لم تكُ برعماً ولا حبّة حامضة المذاق .
اللوحةُ ، بهذا المعنى، غابةُ ألوان وخطوط ، مُنتجعُ الجنون والفتنة، مخاضُ الوجع والمثابرة، مقدار دهش يفيضُ ويتبخّرُ.لكنّها تترك مجالاً لقراءات شتى. كما الحال مع الصور تلصق بجدران فنجان القهوة، ثمّ يجيء قاريء حصيفٌ ليقرأ ما يغيبُ على الفكر والبصر. وقد يظنُّ ظانٌّ أنها ذات قراءة أحادية تُطاوعُ كلّ أحد. فكما الوجهُ يحملُ تعبيرات مختلفة ضمن افق المسرّة والكآبة والرضا والتمرّد…. فاللوحةُ أفقٌ مفتوح ينطوي على معجم قراءات لا ينصاع لكلّ أحد. بل يُستنطقُ وفقاً لخزين معرفي. اذاً، هي المجهولُ الواضحُ لعدد من الألوان والتعرجات والخطوط ، سديمٌ عالق بين الممكن والمستحيل، بين السهل والممتنع. وتمتلك اسراراً تمنحها لمَنْ تريد وتمنع ولوجهاعلى آخرين .
وهي خوضٌ ضمن هذا السياق في زمن الطوفان والغبار والحمم. واستشرافُ ما وراء الأمس والغد للقبض على كائناتهما . تتأتى مُغبرة ومُلطخة بالدم والجمرات والصدمة . أمّا الرسّام فرحّالة
يجتاب الكون من مبتدئه حتى مُنتهاه. منذ صرخة الخلق حتى احتضار آخر عشبة على سطح كوكبنا. فتبّاً للرسم اذا لم يكن شفرةً تجرحُ، وجمرة تحرق، وماء زلال يُطفيء غليل الظمأ. هو عصفٌ لوني يجيء كالسهم تارةً، ويطيشُ بعشوائية مرةً. ويتشظى فهمُه على مَنْ يتبصّره : شواخص غرائبية مُغلقة، ينطحُها امتيازُ التفوّق والتحدّي. شيءٌ يتقبّله الكلُّ. كيمياء لها معادلاتُها، هباءٌ يخلط بين الوضوح والتماهي. يفهمه مَنْ يفهمُ المنطقي المُتداول. وتقعّرٌ بسيط لكنّه عصّي ماكر أيضاً، له وسائل خداع توهم العقل والباصرة. وقد تبدو مفهومة سهلة لكنّْ تكتنفها أسرار صمغية شديدة الانغلاق توصد منافذها على الرائي. وتسلم سرّها لمَنْ كان دؤوباً على قراءة معطاه الجمالي. تكون حيناً بيضاء سوداء: حالتين من التنافض تصدمان النظر. فالأبيضُ مسرودُ أمل أشبه بطائر على فنن. والأسودُ حالة ُتشنّج تُحيّر مستهلك الفن بلا جدواه العصي. وكلاهما يتآخى خللَ فضاء النظر على قدر من الحميمية والتآلف. والألوان بكلّ مستوياتها العميقة والباهتة مهرجانٌ يكسبُ ناظرها،حيواتٌ، أرواح، نبضات، موجات حرائق، سّدمٌ والغاز. فما أدهشَ الفضاء حين يضمُّ كلّ هذا الاختلاف. أحياناً لا يكون الشجرُ شجراً ولا العشبُ هو نفسه يغشى مديات البصر. ولا الزهرةُ تزفُّ الرحيق ، اللوحةُ كيانٌ يلملم دهشتنا ويمضي بها الى مدائن الخيال، وقد تكون لا شيء: استغراقاً في المكر والمراوغة. ينأى بنا عن الواقع ، او تغدو سلعة رخيصة تُباع على قارعة الطريق. وربّما تستحيلُ صرخة تهزّ مطلع الصبح وتُرعشُ ناصية الليل. حسبُها أنّها
تمتلك ملكوت اللون والمخيلة والحكاية ، تُبهرُ وتخلخلُ صفو العقل. ولا معنى لها أن تجرّدت من فاعليتها ، فلها سقفٌ وجدران وشناشيل وسماء مفتوحة. الرسمُ كالصاعقة تضرب ما هو عال وغال، ويُصيب كلّ أحد بصداع لذيذ موجع. هي نسخة لذواتنا تقفُ في الضفّة الأخرى نتبادلُ معها النظر بعيون المتعة والوعي المتوازن.