أصبحت مرتاباً في أمر هذه البلاد، التي كانت تسمى بلاد مابين النهرين، أو بلاد وادي الرافدين، يحدثنا التأريخ عنها، إنها كانت أولى الحضارات البشرية، فهي مهد لحضارة سومر وبابل وأكد وآشور، إذا كانت تلك الحضارات من هذه الأرض؛ فأين أهلها وأبنائها؟ هل انقرضوا من على هذه المعمورة؟! إذا أيقنّا بهذا التأريخ لوجود أطلالٌ لبعض حضاراته؛ فهل من بقايا لأبناء أولئك الذين أسسوا تلك الحضارات؟
أرضٌ فيها خطت أنامل السومريون، في جنوب العراق، أول حرف عرفته البشرية، فكانت الكتابة المسمارية، أعظم اختراع في التأريخ؛ حتى صارت لغة اتصالات الشرق الأوسط لألفي عام، فإذا كانت هذه البلاد عَلمت العالم الكتابة؛ فلماذا هي الآن لاتكتب؟
أرضٌ خرج جلجامش منها، يبحث عن سر الخلود، وبعد رحلة شاقة عادَ خائباً، لكنه نظر لسور مدينته “اوروك” فوجده أفضل عملٌ يُخلد اسمه، فكم كان عظيما ذلك السور حينها، وكم كانت تلك الحضارة عظيمة ؟! فأين أهلها؟
أرضُ وضع فيها حمورابي مسلته الشهيرة، فكانت “شريعة حمورابي” أقدم واشمل القوانين في وادي الرافدين، بل في العالم أجمع، فهي تنظم الأمور الإدارية، والاقتصادية والعسكرية للدولة، كان هذا قبل أربعة آلاف عام، فأين تلك القوانين وأين أهلها؟!
أين نحن الآن من تلك الحضارة؟ كانت هذه البلاد مركز علم وتجارة وزراعة، قبل ألاف السنين، خرج من هذه الأرض من يبحث عن سر الخلود، أما الآن فبدل اختراع الكتابة، فان قادتنا اخترعوا تزوير الشهادة! فانحدر مستوى التعليم نحو الهاوية، وتركنا القوانين و الحضارة والصناعة والزراعة.
وَحَدَ حمورابي أراضي العراق، بعدما كانت متفرقةً، فهو قائد عسكري بارع، أما قادتنا فقد قسموه وضيعوه، أمام غرباء ومجموعات همجية، جاءت من الصحراء لتغزونا وتقتلنا؟ مجموعات نبذتهم الحضارة، ورفضتهم الأرض، عاثوا في أرض الحضارات فسادً وخرابا!
بعد حمورابي ومسلته، ها نحن اليوم نحتكم لشريعة الغاب، غيبنا الدولة؛ ورحنا نحتكم للعشائرية والفئوية والحزبية، بعد ستة ألاف عام من الحضارة، صرنا اليوم أسارى دِوَلٌ عمرها بضع سنين، حضارة زيفها طواغيت وجبابرة وظلمة، خربوا كل شيء في هذه الأرض، قتلوا أهلها، وسرقوا خيراتها، ولم يسلم منهم حتى التأريخ، فقد باعوا ما استطاعوا حمله وتهريبه.
يعيش أبناء هذا الوطن اليوم، وكأنهم غرباء في هذه الأرض، متفرقين ومنقسمين، قد نسوا حضارتهم وتركوا هويتهم، فصار الواحد منهم يتهم الآخر، وتركوا وطنهم، فالمصانع معطلة، والمزارع خاوية، والتجارة خاسرة، لا نعلم لمَ كل هذا الخراب والظلم والفقر، حل بهذا الشعب؟ وكيف لساسة فاسدين وفاشلين، أن يخدعوه المرة تلو الأخرى؟! فأين كل ذلك التأريخ؟ حقيقة هو أم اكذوبة؟ إذا كان حقيقة فلماذا كل هذا التخلف الذي نحن فيه؟!