“كم مَنزلٍ في الأرض يألفه الفتى…وحنينه أبداً لأول منزل”
وطني فيض أنوارٍ وبهجة أنظارٍ ومنبع أفكارٍ , على ترابه مرت أجيال تنطلق من أجيال , وأحلام مولودة من أحلام , وآمالٍ تنشر في الأرجاء براعم الآمال.
فيه نخيل وأعناب ورمان وبرتقال ونارنج ومن الأزهار ألوان.
جباله عالية شامخة غنية بأسباب الحياة , وتتوشح بالثلج شتاءً وباللون الأخضر البراق ربيعا وصيفا , وتتغنى الأطيار على سفوحها , وتتباهى الغزلان بوجودها , ويسعى الإنسان في رياض الروعة والإمعان.
وطني وديانه خلابة , تعزف المياه في بطونها سمفونيات الحب والسماحة والجمال والبهاء البديع , فتصيخ السمع لأنغامها الشجية وأغنياتها , أحياؤها المترنمة بلذة البقاء.
وطني به صحارى نجالس فيها عروش السماء , ونتحبب إلى القمر والنجوم , ونسبح في زيت أنوارها , ونتعطر بأحلام رؤاها وجميل أفكارها ونجواها , حيث ينساب الهدوء وتترقرق الروعة وتطفح الخشية والقنوط الأعظم والإيمان المطلق بباعث الأكوان.
وطني يضم شواهد حضارات غيّرت خارطة المسيرة الإنسانية , ووضعت لها معالم الخطوات الصاعدة نحو سماء الإبداع , والتخلق المتميز الدافع نحو الأمجاد.
ففي وطني بدأ الإنسان مسيرة التحدي ورفع رايات البقاء والتواصل , وأورق في أعماقه الإيمان وتجسد الإصرار والقدرة على الإنطلاق إلى أبعد من دائرة المكان , فصار يرى ببصيرته وعقله المتطلع إلى أنوار ما بعد الذي يرى.
وطني الذي تعرَّف البشر في مرابعه على معايير الإنسانية ومبادئها وقيمها وأخلاقها وتطلعاتها , وأسس التعبير عنها والإنطلاق في دروبها , لكي تتحقق لوحة الحياة التي تحلم بروعتها أقطار السماء.
فكان الحرف والكلمة والقانون والدستور والنظام والفن والموسيقى والعلم , والعمارة والمعبد الباحث عن الله في مملكة الإبتداء الوجودي المجهولة.
وفي وطني تفاعلت السماء بقوة وقدرات خارقة لتأكيد إرادتها في الأرض , حيث تم إختياره ليكون المنطلق المنير , والباعث المشعشع الأمين , الذي يعكس أنوار الأكوان العلوية في سوح الأرض الكروية , لتتجسد عمارة الأفكار والرؤى الجوهرية , لقدرات الخلق المطلق العظيم التي أكدتها إرادة “كن”.
وطني , مستودع المحبة والألفة والرحمة , والتمازج الحي ما بين موجودات التراب وآفاق النفوس والأرواح , والأفكار والتطلعات المتنوعة الزاهية اللامحدودة.
ففي بودقته , كانت الذوات الفائقة تتحول إلى سائل يمتزج مع كل ذات أخرى , لصناعة سبيكة الوجود الإنساني الحضاري المتين , القادر على وضع أسس صيرورات للآتيات الكبار.
وطني الموجودات المتحركة فيه تتعشق في بعضها , لتبني جميعها المتماسك , وكلها المتناسق الذي يتحرك على إيقاع القوة والنماء والإرتقاء , والإبداع المتوافق مع إرادة قوة الخلق والإبتكار والإيجاد الأصيل.
وطني تترعرع فيه براعم الأحلام وبذور الأماني , وتنمو فيه أشجار المنطلقات الإنسانية النبيلة السامية , المسافرة مع أمواج تيارات الوجود الكوني , الطافحة بقدرات التحدي والتغيير وتحقيق تأثير القوة في المواضع التي تكون فيها , لتعلن عن صوت الحياة وعقيدتها الإبداعية الأبدية المطلقة.
وطني , وطن ثقافة وفن وعمارة , وحضارة وتأريخ وأديان ولغات , وأجناس وعقائد وأفكار , وطن القلم والشعر والقصة والرواية والمسرحية والإضافات الثقافية الثرية , التي توجتها ملحمة جلجامش قبل أن تعرف البشرية معنى الإبداع والإنطلاقات الأدبية والفكرية والعلمية والإنشائية , فكان العراقي أول من واجه المصير وحاول أن يسأل ويبحث عن الجواب , ويستحضر النظام الكوني اللازم لتوفير الفهم المعقول للوجود.
وطن القوة والرموز , التي رفعت رايات الأمجاد , وأثْرَت مسيرات الأجيال.
هذا الوطن يبقى، ويبقى ويكون تاج الأرض وفخرها , وعنوان حقيقتها ولسان حالها في أرجاء السماء.