23 ديسمبر، 2024 12:52 م

“كم أكره هذا البلد”.. انفجرت بغضب في حين خربشت يدها على الورق بطريقة آلية تبعتها بضربة ختم اهتز لها المكتب مما اثار حفيظة زميلتها التي شكت من الصداع ورأسها الذي سينفجر في حال اكملت الموظفة (تل) المعاملات الجاثم على المكتب. وللتخفيف من توترها، راحت زميلتها تحدثها عن مخاطر الهجرة في الاونة الاخيرة بما فيها الموت او العودة بخفي حنين، الا ان الاولى لم تأبه بل اكدت بأن حال المهاجرين سيظل افضل وسيصلون الى مبتغاهم، وانها لن تتوانى عن السفر في أية لحظة لو سمح لها اهلها بذلك. استسلمت الاخرى وهي تعترف بكرهها لهذا البلد الذي تحول الى “جحيم مستمر”، مبدية رغبتها في الهجرة لولا ان عائلتها الكبيرة وزوجها لا يؤيد الفكرة.
وفجأة، باغتتني الموظفة الحانقة “ماالذي أبقاك هنا؟ الكثير من الصحفيين والكتاب رحلوا.. اظن ان فرصتكم اكبر من غيركم”.
وبانتظار ان تكمل معاملتي.. أجبتها: نعم.. الكثير منهم رحل.. لكني لن ارحل.
لم يناسب ردي توقعاتها التي انتظرت مني جواباً شافياً، فصاحت “من كل عقلج؟”
أجبت: لو مرض والدك او عجزت والدتك.. فهل ستلقين بهما خارج الدار؟ بلدنا يمر بفترة مرض ويحتاج لمن يرعاه. ردت الاخرى ساخرة: شدعوة هالوطنية؟
لم أرد.. هناك اشياء يسهل نطقها و يصعب شرحها. لم افكر بالامر على انه “وطنية زايدة”، فغالباً ما اشعر ان هذا الوطن لم يعد ملكاً لنا، ومايربطنا به عقد ايجار، وربما سيأتي يوم يطردنا فيه ملاكه الجدد، عندئذ لن يعود غريباً ماحدث لدولة فلسطين التي استبيحت منذ عقود، فصار الغزاة هم اهل الدار، واصحابها مستأجرين.
لا.. ليست “وطنية”، كتلك التي عرفناها في “رفعة العلم” المملة ونحن نقف مجبرين في برد الشتاء وحر الصيف لتحية علم ماكنا نعرف عنه سوى ماحفظناه عن الصنائع البيض والمواضي الحمر.. الخ. ولا هي “وطنية” تراب الارض الذي يتم تهريبه بقناني ليشم عطره المغتربون، فلم اقتنع يوما ان رائحة الارض تختلف من بلد لآخر، ولا هي قصائد “موطني” و “بغداد يابلد الرشيد” و كل الكلمات التي تستثير عواطفنا وتبكينا.. لم اقل ان السماء في بلدي تختلف عن غيرها، او ان ليل “السياب” تختلف طلته على الوسادة.
ليس الامر كذلك، فما تعلمناه عن الوطن لم يكن الا سببا لهرب ابنائه، هو ليس أكثر من شحنات عاطفة قاتلة تطوقنا وتخنقنا كعاطفة الام العراقية التي لاتريد ان تصدق ان ابنها يمكن ان يستقل بعد زواجه. علمونا حب الوطن بطريقة بدائية، لاتختلف كثيراً عن نظامنا التعليمي، أي ان نحفظ الدروس من دون ان نفهم، فجاء حبنا للوطن كمن يعشق جسدا من دون روح.. ويدعي انه عاشق!
و كما يطالب البعض بتغيير المناهج والنظام التعليمي، نحتاج الى تحديث مناهج “حب الوطن” المتخلفة، فقد سبقتنا بلدان العالم المتقدم كاميركا وغيرها في هذا المجال، فلم تعد تعير اهتماما للاناشيد والهتافات بل بأن تزرع في الطفل من عامه الاول “الانتماء” بأن تعلمه كيف يزرع شجرة ويعتني بها حتى تكبر، فيشعر ان روحه اختلطت بنبض ارضها، ونفسه يسير في نسغها، فيحرص على كل شبر من بلاده، وهكذا يتشابه المواطن الاعتيادي مع السياسي في حرصه على كل تفاصيل الوطن ابتداءا من حائط المدرسة الى الشارع والحديقة، وسلة النفايات. ولكي نصل الى هذه المرحلة من “الانتماء” نحتاج الى ان نحرق مناهجنا المتخلفة في “حب الوطن” ونفتتح مدارس جديدة يرتادها السياسيون قبل المواطنين