18 ديسمبر، 2024 11:21 م

وضوح الرؤية .. والرأي الآخر !

وضوح الرؤية .. والرأي الآخر !

في علم الأفكار، مثلما في العلوم عمومًا، ترتبط سلامة نظرية ما بسلامة منظومتها الفكرية، وقدرة منطقها الداخلي على ردم أية فجوات معرفية قد تُضعف من موقفها، وقدرتها على إزاحة التناقضات الداخلية، من ناحية، وتوافقها مع الواقع عبر إمكانية تشغيل المنظومة وقدرتها على تفسير الأحداث الجارية، من ناحية أخرى، فنتائج التقاء النظرية بالواقع يُعد اختبارًا لمدى فاعلية النظرية وصمودها.

لطرح مثال عملي؛ يمكن الحديث عن نظرية “مركزية الأرض”، والتي استمرت قائمة قرونًا عديدة، وتمكنت من الإجابة عن تساؤلات كثيرة، وظلت صامدة فترة زمنية طويلة، ليس فقط لحمايتها من قِبل رجال الدين في العصور الوسطى، بل لتمكنها من التفاعل مع الواقع ومعطيات العلم في عصرها، ولكنها تهاوت رغم استماتة الكنيسة ورجال الكهنوت في الدفاع عنها، عندما توقفت عن تقديم تفسيرات منطقية لظواهر طبيعية تحدث حولنا. فعندما تتزايد الظواهر الخارجة عن تفسير نظرية ما، وعندما تنفلت أحداثًا خارج المنظومة المعرفية يُصبح من الأحرى الحديث عن فشلها عبر تعويضات فكرية تمنح فرصًا لنظرية أخرى للتجلي يمكنها الإجابة عن الأسئلة المعلقة وإدخال كافة الظواهر في تفسيراتها المنطقية.

في المجتمعات المنتجة للمعرفة، القادرة على التعامل مع العلم والفلسفة ومنتجاتهما، بوصفهما منتجات بشرية تخضع لمعايير الصدق والكذب المتعارف/المتفق عليها ضمنيًا يُصبح التحاور حول مدى صدقية رؤية معرفية ما خاضعًا لهذه المعايير وقادرًا على تطوير النظريات المختلفة، ومن ثم نجاح إحداها في الصمود، فعلى سبيل المثال فإن المفكر الاشتراكي الأشهر “كارل ماركس” قد طور نظريته المعرفية الشاملة عبر سجالات معرفية مع عدد من خصومه الفكريين والسياسيين، ولولا هذا الجدل ما ظهرت النظرية الماركسية بهذا التماسك، الذي منحها قدرة أكبر على الصمود والانتشار.

عندما أتحدث هنا عن قدرة المجتمع على التفاعل لا أقصد مساحة الحريات التي تمنحها أو تمنعها السلطة السياسية للأفكار وانتشارها – فهذا موضوع آخر – بل أعني المساحات التي يمنحها العقل/الوعي الجمعي للأفكار وتداولها عبر منظومة القيم التي تُحدد مساحة التفاهمات المشتركة بين الأشخاص، ومدى قدرتها على قبول الاختلافات العقائدية – لا أقصد هنا الأديان – وتأسيس فضاءات الحوار المتبادل، بوصف هذه الممارسات الفكرية/المعرفية قادرة على تطوير المجتمع، ومنحه الحيوية اللازمة للاستمرار والتطور.

إن غياب المناخ الثقافي/الاجتماعي الداعم لحرية الفكر، وحرية التعبير، ليس بحاجة إلى قوانين وتشريعات بقدر ما هو بحاجة إلى تشييد منظومة قيم قادرة على توسيع الفضاءات الداعمة للإبداع والإبتكار، والقابلة لحرية التعبير والاختلاف دون إقصاء للآخر، ودون وصمه بنعوت عادة ما تمنح أعضاء المجتمع حق استباحته ماديًا أو معنويًا، وهو الأمر الذي يترتب عليه غياب النقد، وتراجع الإبداع، وتفشي الظواهر التي تغذي الجهل، وتُعلي من شأن الخرافات، تحت سمع وبصر العلم، ومن ثم يتراجع المجتمع تحت دعوات الحفاظ على الهوية (المنغلقة)، ومبررات الخصوصية الزائفة.