اعتقدت لوقت طويل أنني سأجلس على مقعدي الوثير، في ليلة ماطرة من مساء شتوي مثقل بالبرد، ينبعث صوت أم كلثوم وأنا أكتب وصيتي الأخيرة لأبنائي وزوجتي ومن يهتم لأمري، وللقراء الذين يظنون أنني شخص خارق.
وكنت كذلك، أحلم أنني سأكتب الوصية بقلم أزرق جاف من نوع فاخر، أضع النظارة على أرنبة أنفي، أحك شعري المجعد، المليء بالشيب، بجواري حبوب الضغط والسكري، اسجل انكساراتي وخيباتي وتعاليمي ومواعظي. ولا أعرف كم سيكون عمري حينذاك، ربما ثلاثة وسبعون عاماً أو أكثر قليلاً، لكن المصيبة أن هذا الأمر لن يحدث بعدما انتشرت رائحة الحرب في الأرجاء، دمر بيتي وقتل جيراني، نزحنا من مكان لآخر، من مركز إيواء إلى بيت صديق حميم إلى الشارع، لذا بت أنتظر الصاروخ كي يقضيِ على ما تبقى مني، فأنصرف عن الحياة بصخب كما فعلتْ الصواريخ اللعينة في قصصي ومدينتي.
إن ما جرى يفوق الخيال، ويتجاوز فكرة الانصراف إلى الكتابة في هذا الوقت العصيب؛ فتحريض العقل على طهي نص مسبوك لأجل صديقة تقطن في الضفة الأخرى من الوطن محض هراء، أن نجمع الوصايا المتخمة بالموت في كتاب يوثق اللحظة؛ كي نضع العالم أمام واجبه الأخلاقي تجاه الإنسان المهزوم في قطاع محاصر، يشبه المدن المتحضرة رغم لونه قاتم السواد، يسمى غزة.
ولأنني مضطر أن أكتب وصيتي أيضاً، قررت تنفيذ عملية فدائية؛ لعلي أحظى بهدنة قصيرة.
لذا فكرت أن أجمع شتاتي، ألتحم مع الجدران المدمرة، الأبنية المنهارة على رؤوس ساكنيها، أتضخم مع الحديد الذي اخترق أجساد الأطفال والنساء، وأصير ذلك العملاق، ربما أعظم من الهولك الأخضر، وأقوى من الأيرون مان، أتحول إلى مخلوق يكبر كلما سار في الطرقات التي تنتشر فيها رائحة الدم والصواريخ والدمار الهائل، تلتصق بجسدي كتل الباطون والاسمنت والحجارة حتى أصير مثل عمالقة أفلام هوليود تماماً، كي أقضي على الدبابات التي قنصت ابن خالتي ودمرت بيت أخي، وكي ألتهم الطائرات المغيرة على الأبرياء كل دقيقة.
ترى: هل يمكن للقبضة الاسمنتية أن تتأثر بضرب الطائرات الحربية التي تمارس هوايتها باللعب فوق بيوتنا المتهالكة، تلك التي تسقط حممها البركانية بينما يضحك كابتن الطائرة لإصابته الهدف بدقة، وإنهاء حياة أطفال كانوا ينتظرون الذهاب إلى المدرسة، في جعبتهم حلم دراسة الهندسة عندما يكبرون؛ كي يعيدوا ترميم وترتيب البيوت مجدداً.
لقد قررت حقاً في البحث عن الوسيلة الناجعة في تدمير طائرات الf16 والf35 والكواد كابتر والدرونز فجمعت الحديد في قبضتي لأضرب كل الطائرات المارقة، العابثة بكل تفاصيل الحياة، المتناحرة في هذا الكوكب الصدىء، لكنني اكتشفت عجزي وقلة حيلتي.
ولأن اليد من لحم ودم، أوصي المجانين أمثالي، الغارقين في الخيال، أن يتحول بعضهم إلى زمار يأخذ الأطفال إلى مغارة بعيدة، يعزف كل رجل فيهم مقطوعته الموسيقية عند الفجر ليذهب الملائكة الصغار إلى مغارة لا مكان فيها للموت، وأن يلبس البقية قناع زوربا، ليسرقوا الطعام والألعاب من بيوت الأغنياء.
هذه وصيتي التي لا أعرف إن كانت ستصل إلى أصحابها أم لا، خصوصاً أن المخيم بلا انترنت أو كهرباء، وصية شخص غارق في الخوف والأمل.
أرجو أن تصل بأي وسيلة، عبر الكوابيس أو الأحلام، أو عبر يمامة مغبرة، غارقة في التيه.