وسام العبيدي الباحث الجاد والشاعر المتأمل

وسام العبيدي الباحث الجاد والشاعر المتأمل

في مدينة الحلة، حيث ينهض التاريخ من أعماق بابل، ويهجع الحرف على ضفاف الفرات، وُلد وسام حسين جاسم محمد العبيدي، عام 1982، ليكون منذ بداياته ابنًا للغة، وعاشقًا لمعناها العميق، ورفيقًا لحروفها المتعبة في مسارات النقد والشعر معًا. لم يكن مجرد طالبٍ مجتهد في كلية التربية بجامعة بابل، بل كان منذ خطواته الأولى في رحاب العربية مشروعَ باحثٍ ومثقفٍ وشاعر، يجمع ما تفرّق في غيره من صرامة الدرس، ودفء الإحساس.

حصل العبيدي على شهادة البكالوريوس عام 2004، ولم يتوقف طموحه عندها، بل سار في طريق الدرس الأكاديمي ليحصل على الماجستير في الأدب الحديث والنقد عام 2010، ثم الدكتوراه في عام 2014 من الجامعة نفسها، جامحًا نحو المزيد من التأمل في النص، والتفكيك لمعانيه، والتعاطي مع الشعر والنثر والنقد بعينٍ يقظة وروحٍ شغوفة.

عُرف وسام العبيدي بتنوّع نتاجه، وتعدّد مشاربه، فهو الناقد حين يكتب عن الجواهري، والمفكر حين يتأمل صورة المجنون في المتخيّل العربي، والشاعر حين يُطلق العنان لـ”بوحٍ تعزفه الكلمات”، وهو في كلّ هذه التجليات باحثٌ مشغول بالسؤال، لا يطمئن إلى إجابة جاهزة، ولا يغويه السكون المعرفي.

في كتابه “الجواهري ناقدًا”، الصادر في عمّان عام 2012، اقتحم ميدانًا لم يطرقه كثيرون، كاشفًا عن وجوهٍ خفية للشاعر الذي لطالما قُرئ بوصفه قامة شعرية فحسب، لا ناقدًا له مشروعه ورؤاه. أما في كتابه “صورة المجنون في المتخيل العربي” (الجزائر 2016)، فقد جسّد قدرة بحثية عالية، حيث رصد تقاطعات العقل والجنون، والأسطورة والتاريخ، وأماط اللثام عن خبايا التراث العربي من الجاهلية حتى القرن الخامس الهجري، مشكلًا بذلك لبنة نوعية في النقد الثقافي الحديث.

كتب الشعر كما يكتب الناقد المتأمل، فمجموعته “بوح تعزفه الكلمات” (2016) كانت مرآة لقلقٍ شعريّ، وبوحٍ داخليّ مشوبٍ بالحكمة والحرقة معًا. وقد حظيت هذه المجموعة باهتمام نقدي خاص؛ فكتب عنها الأديب كامل الدليمي فصلًا بعنوان “قراءة في بوح تعزفه الكلمات” في كتابه إبداع الغربة أم غربة الإبداع، كما تناولها الدكتور أحمد الخيال بدراسة تحليلية نشرت في موقع اتحاد أدباء بابل، سلطت الضوء على عمق البنية الشعريّة و”قلق الحدث الشعري”.

ولعل اللافت في مسيرة العبيدي هو هذا التوازن بين الأكاديمي والثقافي، بين الجامعيّ والمجتمعيّ، بين الباحث الذي ينقّب في كتب التراث ودهاليز الحداثة، وبين الشاعر الذي لا ينأى عن معاناة الناس وآمالهم، بل يُترجمها في نصوصه ويجعل منها لبّ اهتمامه. لقد كتب في الصحف والمجلات المحكمة، وشارك في المؤتمرات داخل العراق وخارجه، وأسهم في إعداد كتب علمية صدرت عن العتبات أو عن مؤسسات أكاديمية.

وفي أعماله الأخيرة، يواصل العبيدي هذا النهج المتعدد، فكتابه “فضاءات الحرية في منظور القضية الحسينية” (قم، 2022) يكشف عن بعد فكريّ عميق في فهم ثورات الذاكرة الجمعية، أما في “تحت مرمى الجائحة” (2023) فقد أطلّ من نافذة الحدث الكونيّ الراهن، كاشفًا عن تمثيلات الكورونا في الشعر العراقي المعاصر، مؤرشفًا بذلك مشاعر الخوف والاغتراب والنجاة التي طبعت العالم.

النقاد يرونه وجهًا من وجوه الحلة الثقافية المعاصرة، وصوتًا معرفيًا أصيلًا في مشهد تتنازعه التقريرية والسطحية، وهو، كما قال عنه أحدهم، “باحث لا يتكئ على أدوات محفوظة، بل يصنع من قراءته مشروعًا متجددًا”، فيما رآه آخر “من القلائل الذين وحّدوا بين النزعة التأملية في النقد، والنبرة الصادقة في الشعر، فجاء نتاجه ابنًا لتجربة متوازنة، لا تنفصل فيها الذات عن النص، ولا الواقع عن التأمل”.

لقد تُرجمت سيرته وأعماله إلى الإنجليزية في كتب مثل حلي بابلية وجنائن بابل، وكتب عنه نقاد وشعراء وأساتذة جامعيون، الأمر الذي يعكس الحضور المميز له في المشهد الثقافي العراقي. وبين مؤلف مطبوع وآخر قيد الإصدار، يظل وسام العبيدي صوتًا يمشي على ضوء البصيرة، ويترك أثره في القلب والفكر معًا.

فهو لا يكتب ليُقال إنه كتب، بل ليمنح الحرف وجعًا جديدًا، ويمنح القارئ متعة فكرية لا تُنسى.