بعد إنتظار كاد فيه العراقيون أن يفقدوا أملهم برحيل وزارة عادل عبد المهدي المستقيلة منذ خمسة أشهر إستطاع رئيس الوزراء العراقي الجديد مصطفى الكاظمي أن يحصل على توافقات معظم الكتل والأحزاب داخل قبة البرلمان العراقي منهياً بذلك الكثير من الهواجس والشائعات التي شككت في قدرته على تحقيق هذا الإنجاز وسط أوضاع محلية وإقليمية ودولية بالغة التعقيد .
إن المشهد المتمثل بإداء الكاظمي القسم أمام مجلس النواب العراقي قسّمَ المراقبين إلى قسمين ؛ أحدهما يرى أن برنامج هذا الرجل فيه مؤشرات إيجابية وتبشر ببعض التغيير نحو الأفضل ، وعليه هم يرون أن يمنح بعض الوقت ليرى الجميع درجة صدقه أو قدرته الفعلية على تحقيق ما يعد به خاصة على مستوى إجتثاث الفساد وحصر السلاح بيد الدولة ، أما القسم الآخر ، فيرى أن وزارة الكاظمي ما هي إلا إمتداد لنمط الوزارات التي تشكلت في العراق “الجديد” منذ العام 2005م حتى الآن ؛ أي ، وزارة محاصصة حزبية وطائفية وبشكل علني دون أي مراعاة لإوضاع العراق السياسية والإقتصادية والصحية والأمنية ، وبالتالي فإن أداءها المتوقع ، بعيداً عن الوعود التي أطلقها الكاظمي في برنامجه ، سيكون إمتداداً أيضاً لسلسة الإخفاقات والفساد وفقدان القدرة على تحقيق الإستقلال والسيادة الوطنية .
وللإنصاف ؛ فإن وزارة الكاظمي وإن كانت هي وزارة محاصصة فعلاً ، وهذا بات عرف سائد لدى الطبقة السياسية المتنفذة في العراق ، إلا أنها حوت في تشكيلتها أسماءً وعناوين يمكن أن تشكل فارقة في القدرة على تنفيذ إرادة رئيس الوزراء المعلنة وخاصة في وزارتي الداخلية والدفاع فقد أنيطت مهمة هاتين الوزارتين لضباط مهنيين هم نتاج المؤسسة العسكرية العراقية الوطنية قبل الأحتلال ثم كان لهم دوراً أساس في تشكيل الجيش العراقي الجديد فالحرب على الإرهاب وهزيمة تنظيم (داعش) الإرهابي، وهي المرة الأولى التي يكون فيها على رأس هاتين الوزارتين المهمتين جداً قياساً بإوضاع العراق المضطربة والمخترقة أقليمياً ودولياً ، ضباطاً لا يعنيهم كثيراً تنفيذ أجندة الأحزاب التي رشحتهم لتسنم هذه الوزارات بقدر إهتمامهم بعدم تلويث سمعتهم وشرف العسكرية ، وقيمهم العشائرية والوطنية .
بدأ الكاظمي مشواره الرسمي بالإهتمام بموضع رواتب المتقاعدين ثم قراره بتشكيل لجنة للتحقيق في أعمال العنف التي رافقت الاحتجاجات المناهضة للحكومة والطبقة السياسية الحاكمة، وإطلاق سراح المتظاهرين الموقوفين غير المتورطين بالدم العراقي ، وايضاً تقديم الدعم اللوجستي وتوفير كافة الامكانات المتاحة للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات بما يمكنها من اجراء الانتخابات المقبلة ، كما أستخدم الإعلام ووسائل التواصل الإجتماعي لبث رسائل تهديد إلى العاملين في مجالات ( بيع الوظائف ، التوسط غير المشروع ، وخطف المواطنين وترهيبهم .. الخ) مفادها أنه سيضرب بيد من حديد كل من يتعامل بهذه الواجهات الهدامة لكيان الدولة وهيكلية عملها لتوفير الأمان والإستقرار في الأوضاع الداخلية للعراق ، وهكذا فعل وزير داخليته ،عثمان الغانمي ، الذي هدد بقطع يد كل من تسول له نفسه بيع المناصب في وزارة الداخلية .
الفريق الآخر ، والذي يرى أن الكاظمي هو إمتداد لمن سبقوه وأنه إبن العملية السياسية التي أسست للمحاصصة والطائفية في العراق ، يرتكزون على سجل الرجل وضبابية تاريخه السياسي ، وأغلب هؤلاء يعتقدون أنه جاء بتوافق أميركي – إيراني غريب ، لكنه مفهوم ؛ حيث أن الكاظمي بحكم موقعه كرئيس لجهاز المخابرات العراقي وصلاته الوثيقة بالطرف الأميركي وعلاقاته الجذرية ببعض الكتل الكردية الرئيسة ومعظم الكتل السنيّة ، إضافة إلى صلاته العميقة وغير المعروفة تفصيلياً مع إيران التي منحته الضوء الأخضر الذي قبلت بموجبه الكتل الشيعية السبعة ترشيحه للمنصب بإستثناء كتلة نوري المالكي ، يمثل رجل المرحلة القادر على نزع فتيل (روح الثورة) لدى الشباب العراقي الآن ، من خلال إعادة زرع (روح الأمل) فيهم عبر تخفيض نسب البطالة وتوفير فرص لحياة أفضل من خلال تطوير جانب الخدمات العامة في البلد الذي أهمل فيه هذا القطاع منذ أكثر من 17 عاماً .
يقال عن رئيس الوزراء العراقي الجديد أنه مفاوض ووسيط جيد بين القوى السياسية ، ومن هذا المنطلق ، تراهن بعض الكتل التي وافقت على قبول ترشيحه لهذا المنصب على عدة أمور ، منها ، العمل على إقناع المتظاهرين في بغداد والمحافظات بإيقاف تظاهراتهم وإعتصاماتهم ومنح وزارته الفرصة لتذليل العقبات أمام تحقيق مطالبهم ؛ أي تحويل مطالب الإنتفاضة الشعبية الخاصة بإلغاء العملية السياسية وكل التفاصيل المرتبطة بها، إلى تحقيق مطالب مادية ترتبط بالبطالة وتوفير فرص العمل ، كذلك فإن مهارة الكاظمي التفاوضية ومكره كوسيط يمكن أن توجد تقارباً إيرانياً – أميركياً ينزع فتيل التوتر بين البلدين على أرض العراق وقد تكون آمال إيران أبعد من ذلك أيضاً .
إن رئيس وزراء العراق الجديد يقف بشكل واضح مع التظاهرات العراقية بشرط أن تحافظ على سلميتها ، لكن قادة الحراك الشعبي لا يمكن أن يركنوا للنوايا أو الجمل المنمقة للكاظمي بعد أن قدموا مئات الأرواح والآف الجرحى ، إنهم يريدون أن يلمسوا فارقاً ، وهذا الفارق يتمثل ربما بسحب الأسلحة من المليشيات ومحاسبة قتلة المتظاهرين بمحاكم خاصة وعلنية ، محاسبة الفاسدين وإعادة الأموال العراقية المنهوبة ، تحديد أطر لا لبس فيها لحدود العلاقة مع دول الجوار لتأكيد السيادة العراقية ، إضافة إلى الطلبات الخدمية والمعاشية الأخرى ، لهذا كله فإن التظاهرات عادت وبقوة إلى الشوارع العراقية ، وهذه العودة تحتمل طريقان ، الأول داعم لتوجهات الكاظمي المعلنة حيث أن رسائل القوة من الشعب تزيده قوةً وإصراراً على تحقيق وعوده وتجاوز القوى السياسية في المنطقة الخضراء ، والآخر ضاغطاً عليه لكشف محاولاته كسب الوقت مع المتظاهرين وإجباره لاحقاً على ممارسة ذات الأسلوب لسلفه وبالتالي تتوسع دائرة التظاهرات لعموم العراق .
إن فرص الكاظمي في الخروج بالعراق من الأوضاع الصعبة ضئيلة ، لكنها موجودة ؛ فهو لا يرتبط بإي من الأحزاب أو الكتل السياسية المعروفة هناك ، وهذه ميزة تحصنه من الإملاءات، كما أنه يمسك بكل الملفات الأمنية والإستخبارية عن كل الأطراف الممسكة بالعملية السياسية العراقية ، وكذلك لديه دعم دولي وإقليمي واضح ، والأهم مآلات تحركه على نبض التظاهرات العراقية وصولاً إلى الإنتخابات المقبلة والتي إما أن يكون فيها الزعيم الجديد للعراق ، أو أن يطاح به بموجب معادلات إقليمية تراقب الأوضاع في العراق عن كثب .