سبق ان تحدثنا في مقالات سابقة عن العصور الزاهية للدبلوماسية العراقية التي بدأت منذ تأسيس أول وزارة خارجية في العراق ولغاية الغزو الامريكي عام 2003 حيث تدهورت كل مقومات الدولة العراقية، وأصبح العراق في مصاف أفشل دول العالم في كل مقوماته السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية، ومن المؤسف ان يقارن العراق اليوم بدول الصومال وموريتانيا وجزر القمر وافغانستان مع إحترامنا لهذه الدول، لكن العراق سبق ان خرج من مسميات الدول المتخلفة منذ ثمانينيات القرن الماضي، بإعتراف الدول الكبرى، ولم يتوقع اي منا أن ينحدر البلد مرة ثانية الى مستنقع التخلف بهذه السهوله، وهذا الإندفاع المريع.
وزارة الخارجية العراقية رغم أهميتها بإعتبارها المرآة العاكسة لوجه البلد، والمعنية بعلاقات العراق مع الخارج سواء كان دول او منظمات دولية أو غير حكومية مثل منظمة العفو الدولية، أصابها الهزال حالها حال بقية وزارات ومؤسسات الدولة، وقد انعكس هذا الهزال في إخراج الكوادر الدبلوماسية المخضرمة، والتي لها باع طويل في العمل الدبلوماسي، وجلب مجموعة من الأختصاصات ممن لا علاقة لها بالعمل الدبلوماسي كالمهندس والطبيب والفيزياوي والكيمياوي والبايولوجي، علاوة على ملأ السفارات بأولاد المسؤولين، والكارثة الأخرى تتمثل في إختيار وزراء بعيدين كل البعد عن العمل الدبلوماسي، وربما كان الوزير هوشيار زيباري أهون من خلفه الجعفري وأكثر رحمة بالدبلوماسية العراقية منه، على الرغم من أن الزيباري وضع أسس واهية للدبلوماسية العراقية، سرعان ما بانت نتائجها السلبية داخل العراق وخارجه، ولكن المصيبة الكبرى كانت مع تولي المهووس إبراهيم الجعفري وزارة الخارجية، وعلى الرغم من انه عمل في بريطانيا حملة دار لنقل الحجاج وعاش فيها اكثر من عقدين، وتخصصه الطب، لكنه لا يتحدث الانكليزية ويحتاج الى مترجم خلاله مقابلاته مع بقية المسؤولين الأجانب، وليت الأمر إقتصر على هذا الجانب فحسب، فقد صار الوزير إضحوكة لنظرائه لضحالة معلوماته من جهة، وشروده من جهة أخرى، فالوزير مريض، ولا أحد يجهل وضعه ممن يعيش في انكلترا وقريبا منه، انه يعاني من الشرود والوسوسة، وكان حضوره للمؤتمرات الأقليمية والدولية اشبه ما يكون بصفحة الكاريكتير في المجلات لإمتاع القاريء والتنفيس عن همومه اليومية، لم يحضر الجعفري أي مؤتمر وإلا أطلق مارده من القمقم وأخذ يهذي كأنه في عالم آخر، والحضور ما بين متهكم وساخر ومندهش من طروحات هذا المهووس.
مع أهذا لم يجرأ رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي ان يستبدله او مجرد ان ينبه الوزير على اخطائه وعبثه وتصريحاته المثيرة للسخرية، فقد كان الجعفري يستصغر رئيس الوزراء بل لا يقيم له أي إعتبار، فهو ينظر اليه نظره دونية، وكان الجعفري يتصرف على كيفه، ويطلق لسانه في التصريحات دون الرجوع الى مجلس الوزراء، بل انه يأنف ان يحضر جلسات مجلس الوزراء، وكان يرفض حضورها، ويبلع حيدر عيادي هذا التجاهل والإهانة على الريق. الحقيقة ان الجعفري كان وزير خارجية ايران وليس العراق، يتلقى الأموار والتوجهيات من الولي الفقيه.
جرٌ البعض الأنفاس عندما إنتهت ولاية المهووس الجعفري على وزارة الخارجية، وكما قلنا العراق دائما يتحسر على السابق عندما يشاهد مصائب اللاحق، فالوزير الجديد (محمد علي الحكيم) من احزاب اسلامية، وهذا يعني انه لا ينفع لوزارة الخارجية، واختصاصه الأحصاء والحاسوب، بعيد عن العمل الدبلوماسي، والمصيبة انه يتفاخر بأنه ابن الخارجية، مع انه بدأ العمل في الوزارة منذ عقد من الزمان، اي انه وفق المعاير السابقة في الوزارة لا تزيد مدة عمله عن سكرتير ثالث أو ثاني في الوزارة، اي ليس من الكوادر العليا التي تبدأ من درجة سكرتير اول فمستشار فوزير مفوض.
من مهازل وزارة الخارجية العراقية الجديدة، كانت الزيارة التي قام بها رئيس الجمهورية العراقية برهم صالح الى الشقيقة قطر، وكان في إستقباله رئيس التشريفات في وزارة الخارجية القطرية، وهذا لا يجوز بروتوكوليا، مع انه سبق أن حصل مع الرئيس العراقي السابق جلال طالباني في زيارة له الى ايران، حيث كان في استقباله في المطار وزير الرياضة الإيراني، في حين ان الطالباني نفسه رفض المشاركة في (مؤتمر الاشتراكية الدولية) عام 2006 في اليونان عندما علم بأنه سوف لا يجري له إستقبال رسمي من قبل الرئيس اليوناني ووزير الخارجية، على اعتبار ان الزيارة غير رسمية، وسيقتصر الإستقبال على أعضاء من منظمي المؤتمر.
ربما يظن البعض ان هذه الأمور من اختصاص دائرة مراسم الرئاسة، وليس وزارة الخارجية، نقول ان مراسم رئاسة الجمهورية صورية، فوزارة الخارجية هي التي تقوم بكافة الإجراءات بالتنسيق مع السفارة العراقية في قطر، والتي تقوم بالتنسيق مع وزارة الخارجية القطرية، وتقوم وزارة الخارجية القطرية بتهيئة جدول أعمال الزيارة اعتبارا من ساعة وصول الرئيس العراقي برهم صالح ولحين مغادرته الدولة المضيفة. بمعنى ان جدول الأعمال يتضمن أسماء المسؤولين الذين يستقبلون الرئيس العراقي، ويفترض ان يكون الأمير القطري وعدد من الوزراء من بينهم السفير العراقي في قطر، ويفترض بالرئيس العراقي ان يرفض الزيارة عندما علم بأن أمير قطر او من ينوب عنه لا يكون في إستقباله، ولو إفترضنا جدلا عدم علمه ـ وهذا لا يجوز لأنه مبرمج في جدول الزيارة ـ يفترض بالرئيس العراق ان يحترم نفسه ومنصبه، ويقطع الزيارة على الفور، واللوم يقع على قطر بسبب الخطأ البروتوكولي.
المصيبة الثانية تجلت في زيارة العاهل الأردني الملك عبد الله الى العراق في 13/1/2019 حيث كان في استقباله الرئيس العراقي برهم صالح، وبدلا من رفع العلمين العراقي والأردني، تم رفع العلم الفلسطيني بدلا عن الأردني، وهذا الخطأ البروتوكولي لم يحدث في تأريخ الدبلوماسية المعاصرة، و لم يحصل في تأريخ العراق الدبلوماسي.
والمصيبة الثالثة تمثلت في تسريب جدول زيارة وزير الخارجية الفرنسي الى بغداد، وزيارة مرقد علي بن ابي طالب وزيارة المرجع الشيعي علي السيستاني. لوكان العراق بلدا مستقرا من النواحي الأمنية والسياسية ربما لا تكون هناك أبعاد خطيرة لتسريب جدول الزيارة، لكن بوجود تنظيم داعش والميليشيات الإرهابية، وإنتشار السلاح بعيدا عن الدولة، لا يجوز الإعلان عن منهج الزيارة، ويبدو ان الغرض منه كان ترويج زيارة الوزير الفرنسي لمرقد علي بن أبي طالب ولقائه بالسيستاني، بإعتباره مكسبا شيعيا، ولا نعرف ما علاقة وزير الخارجية الفرنسي بالمرجع الشيعي؟ وهل فرنسا دولة دينية أم علمانية؟ وهل نسينا موقف فرنسا من الصور المسيئة للنبي العربي؟
المصيبة الأخرى تجلت في كلمة وزير الخارجية خلال مؤتمر صحافي بأن ” العراق يؤمن بضرورة حل الدولتين”، وخطورة هذا التصريح يتجلى في إنه يعني الإعتراف بالكيان الصهيوني كدولة، وهو موقف يتعارض مع جميع المواقف العراقية السابقة بشأن إعتبار القضية الفلسطينية محور النضال العربي، وهي قضية العرب المركزية.
الحقيقة لا نعرف كيف صرح الوزير بهذا الموقف؟ فما يقوله وزير الخارجية يعتبر موقفا رسميا لحكومته، لذا يحترز وزراء الخارجية في العالم في كلامهم، ولا يتوسعون في التصريحات لأنها قد توقعهم في مشاكل هم في غنى عنها، والتأريخ الدبلوماسي مليء بمثل هذه الأخطاء. فهل الوزير يعي ما يقول، وهل الحكومة العراقية تؤمن حقا بحلٌ الدولتين؟ أم ان الوزير تجاوز الحكومة في إطلاق هذا التصريح؟ وكلاهما خطأ فادح.
الغريب في الأمر ان الحكومة العراقية لم تعلق على تصريح الوزير غير الحكيم، وإنما هناك بعض الكتل السياسية التي إعترضت عليه، وطالبت بإقالة الوزير أو على أقل تقدير إستجوابه في البرلمان، لمعرفة ما يقف وراء تصريحه هذا.
حاولت وزارة الخارجية الإفلات من قبضة الحقيقة عبر تهويلات لا معنى لها وإستعراضات هلامية عن مواقف الوزير في الأمم المتحدة من القضية الفلسطينية،عندما كان يشغل منصب ممثل العراق الدائم في جنيف، وهي مواقف انشائية لا تختلف عما يسيطره غيره من كلمات، بل إنها حملته نصرا لا علاقة به، وهو إخراج العراق من البند السابع!!!
الوزير لم يقدم إعتذارا عما أدلى به، وهذه مثلبة كبيرة، ولم يصرح بأن ما قاله هو رأي شخصي لا يمثل رأي الحكومة العراقية، بل أصدر توضيحا لا علاقة له بتوضيح ما صرح به، بل زاد الغموض غموضا.
يبدو إننا مقبلين على فصول جديدة من من الفضائح الدبلوماسية، وبدلا عن المسرحيات الكوميدية للوزير السابق الجعفري، فأننا سنشهد مسرحيات تراجيدية في عهد الوزيرمحمد علي الحكيم.
رحم الله عمالقة الدبلوماسية العراقية، وكان الله في عون الأحياء منهم، وهم يشهدون هذا الإنحدار في الدبلوماسية العراقية.