23 ديسمبر، 2024 2:33 م

وزاده بسطة في العلم والجس

وزاده بسطة في العلم والجس

السرد الذي نجده على لسان بعض المحققين الذين جعلوا من الاستقامة رديفاً للخلافة يمكن أن يكون من الأخطاء الشائعة التي لا تخلو منها كتب التفسير والحديث، والسبب في ذلك يعود إلى ظن هؤلاء العلماء بعدم صلاحية الإنسان لخلافة الأرض دون التفريق بين الخلافة بمعنى الحاكمية وبين الخلافة التكوينية التي تتعاقب بموجبها الأجيال التي تعمر الأرض بما هي أرض صالحة للعيش، وهذا أقرب للاعتراض وإن شئت فقل الاستفسار الذي صدر من الملائكة حين أرادوا تبديل الإنسان بمخلوق آخر أو جعلهم خلفاء في الأرض مع فقدهم للمهمة التي جعلها الله تعالى في الإنسان دونهم، ولهذا أجابهم سبحانه بقوله: (إني أعلم ما لا تعلمون) البقرة 30. وذلك رداً على قولهم: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) البقرة 30. وفي رده تعالى إشعار يفوق عملية سفك الدماء، وإن كان ذلك ملازماً للحياة التي لا تتم على الأرض إلا بالاجتماع والتزاحم الذي يؤدي إلى الاختلافات.

ولهذا كان للاتجاهات البينية أثراً فاعلاً في ظهور التقسيمات التي توجد داخل النفس البشرية المتمثلة في التراكيب الروحية والجسدية، إضافة إلى التمرد والطغيان الذي يتولد من القوى الغضبية والشهوية وغيرهما من القوى التي تجعل الإنسان مسيراً لها إن لم يحسن التحكم بها، وهذه التقسيمات إما أن يكون منشأها ملازماً لتلك القوى وما تفرضه على الإنسان وإما أن يعود على الإنسان بالنفع بسبب توجيهها إلى طرق الكمال التي يسعى إليها.

وبناءً على ما مر يظهر أن الله تعالى لم يأمر الملائكة بالسجود لآدم إلا في الوقت الذي نفخ فيه من روحه، وهذا من أهم الأسباب التي يكمن فيها رقي الإنسان وتفضيله على كثير ممن خلق الله تعالى بسبب أن نفخ الروح فيه لا يعني ايجاد الحياة المادية له، لأن الأخيرة يشترك فيها مع جميع المخلوقات، أما تلك النفخة الخاصة لا بد أن تكون أشبه بإنزال الروح المعنوية التي تفتقر إليها الكائنات الأخرى.

ومن هنا نعلم مدى الفرق بين أتباع الروح المعنوية وبين أتباع الروح المادية الذين وصفهم القرآن الكريم بأسفل سافلين، كما في قوله تعالى: (ثم رددناه أسفل سافلين) التين 5. أو الذين عبر عنهم بمصطلح الموت، كما في قوله: (أو من كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها كذلك زين للكافرين ما كانوا يعملون) الأنعام 122.

وبهذا تظهر النكتة التي يشير فيها القرآن الكريم إلى خلود الإنسان وركونه إلى الأرض، كما في قوله تعالى: (مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) التوبة 38. وكذا قوله: (ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه) الأعراف 176. واستعارة الأرض هنا لحب الدنيا من المحسنات التي استعملها القرآن الكريم، كما قابل ذلك بالصعود المعنوي الذي ذكر في قوله تعالى: (إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه) فاطر 10. حيث لا صعود ولا رفع على حقيقته فتأمل.

ولهذا فإن الإنسان المعتمد في الخلافة الشرعية يجب أن يكون على مقربة من الرقي والسمو، وهذا هو الاصطفاء الذي يشير إليه القرآن الكريم في متفرقات آياته كاصطفاء الأنبياء والخلفاء، الذي أشار إليه تعالى بقوله: (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون) الأنبياء 105. وكذا قوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) القصص 5. وقوله: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً) النور 55.

أما الخلافة العامة التي يراد منها خلافة الإنسان بما هو إنسان دون النظر إلى ما يحمله من روحانيات وعلوم، فقد بينها القرآن الكريم في قوله تعالى: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) يونس 14. وكذا قوله: (واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح وزادكم في الخلق بصطة فاذكروا آلاء الله لعلكم تفلحون) الأعراف 69. وقوله: ( أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض) النمل 62.

وبهذا يتحصل أن المصطلحات التي تتكون منها الحاكمية لا بد من اشتمالها على بعض الفقرات التي تؤكد على توجيه المجتمعات إلى الطرق التي يرتضيها الحاكم، دون النظر إلى نوعية الحكم، وتترتب على تلك المصطلحات بعض المميزات التي تختلف من مجتمع إلى آخر، ويكون أصلها قد استمد قوته سلفاً عن طريق الرؤية المعنوية أو ما يقابلها من رؤى كالمادية مثلاً، دون النظر للأطر الأولية التي لا يمكن للإنسان أن يكتشف أسرارها، اللهم إلا ما يظهر أمامه من أمارات دون أن يرتب عليها أي نوع من السلوك الشرعي في شخص من يتولى الإمارة.

ولهذا انتفى مفهوم الغرابة الذي يترتب عليه ما يقوم به بعض الحكام من تدمير يفوق الكوارث الطبيعية، وإن شئت فقل هو قياس مع الفارق، وهذا الأمر ليس وليد حالة تأريخية فريدة من نوعها أو منهج معين بل هو أشبه بالطريقة أو السنة المتجددة التي تمر عبر العصور، والقرآن الكريم يؤكد على هذه الحقيقة وبطرق مختلفة، كما حكى تعالى ذلك عن قوم نوح في قوله: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا) هود 27. وهذا يدل على أن غير الأراذل حسب نظرتهم الخاطئة، هم من يتولى أمرهم ورعايتهم وقد ترسخت هذه الطريقة في أفكارهم، حتى انتقلت من جيل إلى آخر، وصولاً إلى أصحاب التابوت الذين أرادوا من نبيهم أن يبعث لهم ملكاً، وكانت هذه الواقعة من بعد موسى، كما بينها تعالى في قوله: (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً… إلى قوله… قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم) البقرة 246- 247.