23 نوفمبر، 2024 12:41 ص
Search
Close this search box.

وراق يبيع كتب النجوم … كتب في كتاب نسخ قديمة لكتاب جديد

وراق يبيع كتب النجوم … كتب في كتاب نسخ قديمة لكتاب جديد

ان اقتناء نسخة من كتاب (وراق يبيع كتب النجوم ) للشاعر ادونيس تسمح لنا بالافتراض بداهة ، ان الوراق قد ابتاعنا مجموعة لايعرف عددها من كتب النجوم نظراً لان العنوان يشير بوضوح الى تضمن الكتاب لكتب اخرى ، ولذلك فأن النسخة التي نبتاعها من الوراق إنما تعني كتباً وليست كتاباً واحداً فحسب , وبإزاء ذلك فنحن لا نملك سوى أن نصبح مقتنين لمجموعة كتب ذات وجود غير مرئي في كتاب واحد ، الأمر الذي يدعونا إلى القول بان كتاب ادونيس تتوارى تحت جناحيه الواسعتين كتب بأكملها ، ان هذا يدلنا على ان ظاهرة تواري شئ ما تفترض ظهور شئ آخر ، وبالتالي فأن عملية تناسل كتاب وبشتى الاشكال من النسخ انما تعني ظهورها على صورة نسخ قديمة لكتاب جديد ، وهذا هو وجه الغرابة في كتاب يتبارى مع الزمن لنشدان الاستدامة لا التكميل ، ولعل ما يجعل ذلك ممكناً هو ما تختزنه نصوص الكتاب من اجزاء صامتة بمقدورها ان تجعل المعاني تنفلت ولا تترسخ بالمقدار الذي توفر فرصاً لتوالد كتاب وتناسله حينما تواصل نصوصه متابعة الطرق على ابواب المخفي وتحريضه على قول ما لا يسمح بقوله ، لاسيما وان المخفي يجيد المنح والكف عن العطاء بآن معاً ، للابقاء على ما يصمت من السر باعتباره الجانب المؤتمن في الحفاظ على جزء من مظاهر العالم الماثلة في المخفي ذاته والذي يتشابه في الوظيفة مع طابع الحكمية واللغز ، واستناداً الى ذلك فأن الشاعر ادونيس لا يضع اسرار كتابه بكاملها قيد الحركة ، انه يطلق جزء منها ويقيد جزءاً آخر في الوقت ذاته ، وهذا يعني الخوض في محاولة اعادة السر للسر نفسه عبر افراغه جزئياً بهدف تهيأته للامتلاء واعادة القراءة .
                          ثمة نافذة اكثر مما ترى العين احياناً
                          ثمة طريق بعيدة ، اكثر قرباً من عتبة البيت
                      او :
                    هنا ، تضع الحكمة الشئ واللا شئ في صحن واحد
نفهم مما سبق ان الشاعر ادونيس يهمه كثيراً مقاربة الشعر من كتب النجوم ، لاخفاء شئ من طابع الحكمية واللغز في نصوصه وما تختزناه من اسرار تظل تعمل بما يماثل عمل دورة المفتاح واشتغالاته في اتجاهين متعاكسين تسمحا للشئ المقفل ان ينفتح تارة ويحكم صلته بالإغلاق تارة اخرى ، وهكذا دواليك ، لدرجة ان الشاعر وهو يواصل الانشغال بالمعنى المقطوع بالزمن الذي لا تكتمل دورته ، يشكو من ضياع وقته وهو يهم لإيجاد شئ :
                       كنت اقذف بوقتي في سلة تظل فارغة
وفوق ذلك يطرح ادونيس تساؤلاً مثيراً :
                       هل يكشف الضوء عن الاشياء غطاءها الكامل ،
                       ام انه لايكشف إلاٌ حجابها الاكثر قرباً
ويتابع تساؤله بقول شعري هو بمثابة اجابة تتعلق باهمية دلالات الفعل المفتوح في الشعر :
لا يأتيك جواب . يأتيك مزيد من الحيرة
ربما ما يعلنه الشاعر ادونيس عن حضور الحيرة هو بمثابة ضرب من الوقوف امام ( لغز ) بعينه ، لاسيما وان مايشغل الشعر هنا هو اعادة تأويل السر نفسه ، ذلك السر الذي لايصيبه الوهن ابداً طالما ظلٌ يجد له مكاناً بين الغموض واللباقة في آن ، لذلك فأن النصوص التي يحتويها كتاب ( وراق يبيع كتب النجوم ) لا تعجز عن فهم قيمة السر ، ولذلك لا تسمح لنفسها بمقارعة الزمن من دون أسرار حيث بوسعها ان تحتمي بالخاصية الشعرية للغٌز والحكمة وما يضمرانه من خفايا تقرٌب الشعر من صورة العرٌاف الذي يجوب مساحات الاسرار :
             على عتبة المقهى ، او في الشارع كان الشعر يذهب ويجئ
             في شكل عرٌاف
هذه الصداقة بين اللغز والحكمة وإسرارهما من جهة والشعر من جهة اخرى هي بمثابة امتداد لصورة الصداقة بين العرٌاف والشاعر حيث يُمَثل الشاعر بصورة العرٌاف مثلما يُمَثل الفجر بصورة الدٌيك ، وعلى هذا الصعيد فان افتنان الشاعر ادونيس بما يعتمٌل من اسرار هو تأكيد لاهمية الشئ المخبوء الذي يبحث عنه الشعر ، ذلك الذي يجعلنا رهن الانتظار مترقبين لما يتشكل من بنيات غائبة ، حين يتجه الشعر الى استشارة المخفي والتفاوض معه :
                   في الغسق ،
                  عندما يغلق الفضاء ابوابه على الوضوح
                  تبدأ المدينة بفتح ابوابها على السر
                  ما اسعد اللحظات التي تتيح للغامض ان يقرأ الواضح

يقترح السر ان يكون جزء منه معلقاً وعلى وفق ذلك يظل اللغز مضللاً لصاحب الحل ويكون في الوقت ذاته مولداً لمجهولية المخفي الذي يسعى بدوره هو الآخر الى استدعاء صاحب الحل ليضلله مرةً اخرى ، وهكذا تتقارب لعبة مجهولية السر مع الاشتغالات الشعرية المفتوحة التي تعمل على تغيير اتجاهات الاشياء المعتادة بمنحها اسراراً ، وتلك هي مؤديات اللعب الشعري المفتوح التي تزدوج وتتضاعف باعداد لا حصر لها من التخمينات ، ولهذا السبب نرى ان كتاب الشاعر ادونيس ( وراق يبيع كتب النجوم ) يجيد التواري في كتب اخرى تبعاً لآليات اللعب الشعري المفتوح الذي من شأنه ان ينتج مجالات شعرية غير متناهية تسمح للشاعر بوضع اسئلة في افواه معان غير مكتملة ، لكنها لاتكف عن مساءلة العالم والتكلمٌ بلغة ثانية او بالاحرى التكلم بما لا تقوله هي ذاتها ، وما لاتقوله هي ما نلبث ان نجده في الجزء الناقص من المعنى الذي تجتمع حوله نصوص الشاعر لتضمن استمرارها ، وبهذه الطريقة يمكن للشعر أن ينمو ويعيد خلق نفسه ، بعد ان تصبح فكرة اللامتناهي ضامنةً لعدم استهلاكه ، الأمر الذي يجعل من الاجوبة لاتنوب ابداً عن الشاعر وما ينوب عنه حقاً ما يتوالد من اسئلة في شعره والتي تدفع بالنصوص الى تحييد المعنى ولا تسمح لاية اجابة ان تنطق .
وهكذا يتحول الشعر الى نوع من ادامة الاسرار ، التي بامكان اللغز والحكمة تزويدها بصفات التنوع اللا متناهي .
ان ذلك يدلنا على ان تواري كتاب شعري في كتاب شعري آخر بمقدوره ان يوفر امكانية اكتشاف كتب شعرية جديدة يتلو بعضها بعضاً ، ويتم انتاجها من شئ متوار، شئ هو اقرب فيما يضمره الى القصد الغيبي وهذا ما يذهب اليه الشاعر ادونيس في نصه ( النجوم في اليد ) :
            كنت اقرأ النجوم اعتماداً على خطوط يدي . وكان لي صديق
            يعارضني يقرأ على العكس ، خطوط يديه اعتماداً على                   
            النجوم :
            لم نسأل : أي الطريقتين اقرب الى العلم ، كنا نسأل :
            اي منهما اقرب الى الشعر ؟
            كان يقول : الشعر هو الطبيعة
           وكنت أقول : الشعر هو الغيب في لباس الطبيعة
تقدم نصوص ادونيس قراءات شتى للثياب والطبيعة والجسد والاشياء والانسان وغيرها ، فيما تنشغل بتقديم توضيح جديد للسر باعتباره اثراً غير مرئياً في الشعر يجده الشاعر حيث لايوجد ، ويحتاج الكثير لكي يراه ، ان الشاعر ادونيس يأخذ باطراف الموجودات وبما هو عميق فيها وليس رائجاً ،  بمعنى انه يجعل من الشعر قوة قادرة على العمل انطلاقاً من مقومات اخرى تشكل بمجموعها وسيلةً للدفع عميقاً باسرار المعنى لتصل الى نقطة الاستحالة تلك النقطة التي يواجهها الشعر في لحظة ان يكون حاضراً :
                      انا كمثل نقاش
                      ينقش اعماله على جدران الريح
                      …………………………………
                      …………………………………
                      مرةً في دمشق
                      ارتطم جبيني بباب الغياب
هذا هو وجه الغرابة في اشتغالات ( البنية الاستدامية ) للشعر تلك البنية التي تمثل النقطة الحاضنة لتوالي الزمن وهي  التي تزيد الشعر دون ان تستكمله :
                      ثمة برد يكاد ان يرتجف منه حتى جسد الشمس
                      ثمة امرأة تنتحب في طيات كتاب
ما الشاعر هنا.. ؟، انه لايظهر إلا لكونه رجل مهارة يرى الندرة في انها مصدر الإفراط ، او يحول الزمن الى امكنة لا ذاكرة لها ، او يبحث عن قبلة ولدت من دون شفتين ، انه الشاعر الذي يقلع وسط الريح لا قريباً منها ، بهدف ابتداع وجود آخر للشعر ليلخص حكمة الأجيال ، انه يمٌد بنطاق احاطته الى كل معنى يتجاوز قصد الاتمام ، ولا يفضل الوقوف عند لحظة او شئ ما سعياً لادراكه ، انه يضرب في العمق الانساني المتساءل الذي لا يروم جواباً ، ما يصنعه فقط هو ارسال رسائل ضمنية داخل رسائله المتكلمة التي تخلع على الاشياء صفات غير معهودة وتبيض قسطاً من دلالاتها في كل حين فتسلم متعتها لنا بجرعات ، وما لعبة التواري لوقت ما إلاٌ جزء من السر في اشتغالات اللعب الشعري حيث تقف حائلاً بين ان يبقى الشعر او يتوارى .
ان نصوص الشاعر ادونيس لاترغب في تقييد نفسها الى معنى بذاته ، ما ينشده الشاعر هو اللجوء الى صفة من صفات السحر لاسيما حين يحاول الكشف عن مضمون لحظةً لا يكررها الزمن الى الابد ، انها لحظة خاطفة ، لكنها ابدية ولاتعود الى جوار اسلافها :
                      ليس لي راية لكي اسير وراءها ، او لكي ارفرف
                      بأسمها فوق رؤوس المارة
                      حياتي قبر محفور في الهواء
هذا هو ما ندعوه بطيران المعنى الذي لايسمح لشاعر مثل ادونيس ان يتوقف ، بل يوغل في تخييلاته ، فعندما ينتهي شئ فأن شيئاً آخر يبدأ ، وهكذا لايحظى شعر ادونيس الا بالقليل من الراحة . وان السبب يعود الى ان الطريقة الوحيدة التي يربح فيها الشاعر هي الخسران ، فما بالك في ان يكون التوقف قليلاً طليقاً ومقيداً في آن :
                     طيور كثيرة في رأسي ، قيود كثيرة بين قدمي
وهنا لابد من ذكر أمر يتعلق بماهية الحياة لو كانت بلا ذاكرة ، عندئذ يكون كل شئ فيها جديداً ، تماماً كما يفعل الشعر اذ لا يوجد فرق يذكر او يلفت الانتباه بين النسيان والذاكرة ، فكلاهما يعنيان رحيل الاشياء وفقدانها سواء جرى ذلك على مستوى التذكر او النسيان ، وبناءً على ذلك فأن من الصعوبة ان نجد نصاً يختم كتاب ( وراق يبيع كتب النجوم ) ما دامت الذاكرة في هذا الكتاب تعيش في تواطئ حميم مع النسيان .   

أحدث المقالات

أحدث المقالات