27 ديسمبر، 2024 9:42 م

وديعٌ كحمامة وديعة

وديعٌ كحمامة وديعة

كلما تقدم الزمن في العراق كلما ازدادت حالات الالم والبؤس والشقاء لأبناء هذه الارض الطيبة بكل شرائحها المجتمعية وتحولت الساعات والايام الى صراعات يكتوي بها أبناء الشعب بنيران الخوف والترقب لحادثٍ أو حالة ربما تعيد الحياة الى سابق عهدها ويتنفس أبناء هذا البلد الصعداء من جديد .

منذ زمن والعراق يسكب دمه على هذه الارض بلا توقف وكل العالم يتفرج دون ان يحرك ساكناً لأنقاذ هذا الجيل من صراعات الرعب والخوف التي يعيش فيها ليلا ونهاراً. حينما سقطت الدكتاتورية حلمنا ان يتحول البلد – العراق – الى مساحةٍ خضراء أو بؤرة فعالة من بؤرات التقدم والنجاح- وبنينا احلامنا هنا وهناك وراح البعض يتطاول في حلمه ليصل الى مساحات أبعد من المساحات المرسومة لحيثيات هذه الارض وهذا البلد .

لم يكن في الحسبان أن طيور الغربان السوداء في التفكير والتخطيط قد حطت على أرض العراق لتحيلة الى بؤرة من الفساد وبحيرات من دماء تنتشر على طول مساحة هذا الوطن من الشمال الى الجنوب.

ومات الحلم الذي لم يرَ النور أصلاً وتحولت مجالس النقاشات والحوارات في الازقة والمقاهي والطرقات وعند المرتفعات الى مجالسِ أنينٍ وحنينٍ الى الماضي البعيد. الغريب في الأمر أن من يحكم هذا البلد الجميل لايفكر بجماله وروعته وقدسيته ويتعامل مع الارض بأقسى درجات القسوة والتكبر والخذلان..يستنزف اموال البلد ليحولها في النهاية الى بلدٍ آخر ومصارف أخرى خارج الارض الطيبة ليحتاط للزمن كما يقولون. لم يأتِ الحاكمون لتعمير هذا البلد بل وكأنهم قدموا لتدميرة حتى آخر لحظة.

الغريب في الأمر أيضا ان هذا البلد كم هو كريم وهذه الارض كم هي تعطي بلا حدود لكن أحداً منهم لايفي بوعده ويساند هذه الارض وشعبها الفقير بكل مقاييس العبارة من معنى خفي وظاهر ..وبين عشية وضحاها قام الشباب من مختلف الأعمار يصرخون ويزمجرون بشعارات المظاهرات السلمية ولكن أيضا لا أحد يهتم لهم وكأنهم شباب ينتمون الى أرضٍ أخرى.

وأزدادت المظاهرات يوما بعد آخر وراهن الجميع على أن هؤلاء الشباب سيضجرون من البرد والجوع والسهر ويعودون جميعا الى ديارهم وينتهي كل شيء ..والغريب أيضا أن العكس هو مايحدث في هذه الحركة غير المتوقعة أبداً..بين كل هذا وذاك وجدتُ نفسي أنا الشاب المسالم الوديع وأسمي الرسمي – وديع- حقاً أنا وديعٌ كحمامة سلامٍ تطير من بقعة الى أخرى أبحث عن قوتي لأسد رمقي وأحتياجات بناتي الصغار- رانيا وتانيا.. وجاء القدر ليقذف بي قبل يومين بين صفوف المتظاهرين الشباب ..لابل وجدتُ نفسي وروحي تكادان تختنقان برائحة البارود والدخان المسيل للدموع رغماً عن أنفي. لا أعرف كيف حدث هذا أم أن القدر هو الذي خطط لأكون في وسط أشرس مظاهرة عرفتها تاريخ المظاهرات الحديقة في تاريخ العراق الحديث.

أنتهت ساعات العمل وفرحتْ روحي لأنني بعد نصف ساعة أو أكثر بقليل أصل البيت لأجد بناتي الجميلات الصغيرات يبتسمن لي كعادتهن كل يوم حين العودة من العمل .. في ضحكاتهن وابتساماتهن أجد سعادتي الحقيقة . في اللحظة التي وصلتُ فيها الى الخط السريع مع الناس الذين غادروا مكان عملهم وجدنا أن الطريق مغلق بسبب المظاهرات . توجهت صوب مجسر محمد القاسم بالقرب من محطة الكيلاني واذا بقنابل المسيلة للدموع والرصاص الحي ينهال علينا من كافة الجهات.

كانت الخطة اجبار الشعب للصعود الى الجسر واعتقال كل من كان هناك. أنا لم اشترك في المظاهرات لكن القدر خطط لي لأكون في وسط المتظاهرين . كانت رائحة دخان القنابل تختلط برائحة دخان الأطارات المحروقة لدرجة أنني شعرتُ بصعوبة التنفس.

كانت تلك اللحظات بالنسبة لي كأنها يوم القيامة .

أحسستُ أن حياتي ستنتهي هنا أما بالرصاص الحي أو الدخان المخيف. كانت أجساد الشباب الغاضب تتقدم هنا وهناك وراح البعض يحاول ترك ساحة المعركة الحقيقية بأي ثمن . البقاء هنا معناه الموت أو الضياع في غياهب السجون والنسيان. حاولت مع نفسي أن أكون متحضراً نوعاً ما وأسلم نفسي للقوات وأشرح لهم بأنني ليس متظاهراً هذا اليوم بل عائدٌ من عملي الى البيت..وراح الشخص الآخر في داخلي يصرخ بأعلى درجات الغضب والقوة ويحثني على التخلص من هذا المكان بأي ثمن من أجل شريكة حياتي التي لاتعرف مصيري في هذه اللحظة ومن أجل بناتي الصغار اللتان تنتظراني الآن عند عتبة الباب بقلق تام…ماذا ستفعل شريكة حياتي عندما تسمع بأنني في سجنٍ من سجون هذه القوات التي لاترحم رجلا عاد من مكان رزقه اليومي.

أسودت الحياة في نظري في تلك اللحظة ولم أعد أرى الا طيف بناتي الصغيرات وهن يبكين أباهن الضائع في لهيب الموت دون أن يرتكب جرماً يحرمهُ القانون الدولي. كان الجسر الشاهق عند منطقة النهضة قبرنا الحتمي ومصيرنا المجهول في تلك اللــحظة . كانت الجماهير تتمركز فوق جسر النهضة المرتفع وشفلات تحت الجسر وراح الشباب يصرخ على سائقي تلك الشفلات ان ينقذوننا من هذا الجحيم لكن لم يلتفت الينا أحد. كان هناك – كيبل يمتد من الجسر الى الاسفل بمسافة مترين – راح البعض من المذعورين الهاربين من الموت يتسلقون ذلك الكيبل .

نظرت النظرة الاخيرة لأشاهد غرفة صغيرة ربما تكون غرفة حارس او ماشابه ذلك لكنها تبتعد عن الارض بما يقرب الامتار الثلاثة أو الأربعة وسقفها الحديدي المتموج – الجينكو – يظهر لي كأنه وسيلة نجاتي الاخيرة في تلك اللحظة. بالنسبة لي لم يعد هناك خيارٌ آخر …القفز المجهول أو الضياع الى الأبد في غياهب السجون أو التعذيب دون أن أرتكب جرما مهما كان نوعة .

حضرت أمام عيني صورة والدي وهو ممزق الجسد تحت الشفل في مصفى الدورة عام 1979 أثناء الواجب وحضرت صورة عمي وهو ممزق الأشلاء في نهر جاسم اثناء حرب الثمانينات ..وحضرت صور أخرى لأقرباء ضاعوا في معسكرات الأسر الى الأبد ..لا أعرف لماذا حضرت أمامي تلك الصور المرعبة ..لابل حتى صورة شريكة حياتي راحت تطير أمامي كأنها تتوسل الي أن اطير في الهواء صوب سطح تلك الغرفة البائسة ..أغمضتُ عيناي وطرت في الهواء كأنني جسد بلا روح يموج في فضاء فسيح ليس له حدود..شعرت ببرودة الهواء ترتطم بصدري كسكينةٍ حادة تروم قطع أوصالي أشلاء متناثرة. سمعتُ صوت ارتطام جسدي الثقيل على سطح الغرفة البعيدة عن جسر الموت. أحسستُ أن قدمي تصرخ بصوت مكتوم وأن جزءاً من جسدي يكاد ينفصل عن باقي الجسد.. صرختُ بأعلى صوتي طالبا المساعدة من الشباب المتظاهر. سارع الكثيرون لأسعافي ووضعي في تكتك مع بقية المصابين صوب المستشفى إلا أن أحد الشباب صرخ صوبنا بأن هناك قوات الشغب تعتقل كل من يدخل المستشفى للعلاج . رجوت الشباب الرائع روعة تربة الارض وعذوبة مياه دجلة أن يضعونني في سيارة تكسي صوب البيت. الحمد لله وصلت البيت بشق الأنفس وأنا أكاد الفظ أنفاسي من الألم والخوف ورعب حادث جسر محمد القاسم.

تلك الحادثة رسمت لي دروسا لم اشعر بها من قبل.. لم أكن أتصور أن ساعات الخوف والرعب تجعل شباب العراق يقدمون الدعم للمصابين بهذه الروح العظيمة وتلك التضحيات التي لايفهمها الا مع عاش معي تلك اللحظات المخيفة…سلاما شباب العراق..وسلاما لجسر محمد القاسم الذي كان بالنسبة لي تاريخاً غيَّر موازين القوى في روحي الى الأبد..وستبقى في صدري صرخات مكتومة الى الابد بالقرب من مجسر محمد القاسم. عاش العراق والخلود لأرواح الشباب النقي الذي ضحى بدمهِ من أجل تربة العراق.