دخلت الأزمة السياسية والعسكرية في العراق منعطفا خطيرا بعد التصعيد الجديد بين الحكومة المركزية وكردستان، بعد أن رفع رئيس الوزراء نوري المالكي عصا غليظة بوجه قرار مسعود البارزاني رئيس اقليم كردستان، الذي ألحق بموجبه المناطق المتنازع عليها بكردستان، والتثقيف على تعميق هذا التوجه في المؤسسات الكردية، ما يشكل تحولا خطيرا في المواقف، ويدق أخر مسمار في نعش ما يسمونه ” تنقية الأجواء الحوار”.
ان التصعيد الجديد يكشف عن خلل خطير في التعامل مع الدستور، بل يظهر الحاجة الملحة لتعديل هذا الأخير عبر استفتاء شعبي، نجده أكثر أهمية حتى من اجراء الانتخابات، فكل جهد مؤسساتي في ظل الدستور الحالي هومضيعة للوقت، فلن تكون هناك حكومة قوية مستقلة في ظل توافقات و محاصصات كسرت ظهر العراق، وفتحت أبواب جهنم على وحدته وسيادة قراره وحماية ثرواته، لذلك ظلت جهود المصالحة أقرب الى ذر الرماد في العيون منه الى حسم الخلافات دستوريا، بعد أن أخذت هذه الأخيرة بعدا قوميا أكثر من غيره.
لقد عاش العراقيون على طول الأشهر الماضية ظروفا معقدة أثرت في أدق تفاصيل حياتهم تحسبا من مفاجأت امنية غير محسوبة العواقب ، بسبب التصعيد بين الحكومة المركزية و كردستان، و اليوم يتحدثون عن انفراج وتصعيد في ذات الوقت، دون ان يعرف الشعب سبب الأزمة الحقيقي و مبررات انفراجها المفاجيء، أو العودة الى نقطة الصفر، ما يؤكد حقيقة استهانة مسؤولي العراق بارادة الشعب،بسبب تخريجات عرقية و طائفية هي الأبعد عن مصلحة الوطن و أهله، فهل هذه ديمقراطية عراقهم الجديد، ولماذا يسكت شعبنا على هذا الخلل، هل هو التخلي عن المشروع الوطني، أم لأن السياسيين نجحوا في تحويل تخندقاتهم الى أمر واقع ، مهما يكن السبب فان المتضرر الكبير هي عراقيتنا، وذلك ما يستدعي الانتصار لها عبر مشروع وطني خالص النية للعراق و أهله، يستمد قوته من دستور عراقي متوازن، وارادة سياسية ترفع شعارالعراق أولا.
لن يقبل العراقيون تقسيم بلادهم بسبب تجاذبات سياسية مؤدلجة بعيدا عن مصلحة البلاد والعباد، مثلما يرفضون بقوة سياسة القضم المبرمج للسيادة ووحدة البلاد، لذلك تستفزهم تصريحات البارزاني الانفصالية ، مثلما تؤرقهم توجهات المالكي العسكرية، لأنه في الحالتين هناك دما عراقيا سينزف بغزارة، وهناك فتنة تحضر على نار هادئة جدا، لأن أعداء العراق ليسوا في عجلة من أمرهم، طالما انهم نجحوا في تفكيك استقراره الداخلي بأيدي عراقية، وبما ضمن لقوى عربية واقليمية التمدد خارج امكانياتها الجغرافية والاقتصادية والبشرية!!
ورغم كل ما يواجهه العراق من تحديات ومفاجأت متعددة الأوجه واللاعبين ، ينشغل السياسيون بأجندات أخرى من بينها الهيمنة على القرار وتغييب المشاركة، وفرض المواقف بنفس قومي او طائفي أو حزبي، وبناء مؤسسات جديدة للخوف ، وتعميق التخندقات خارج مصلحة الوطن، والقفز على التشريعات والتحالفات، ما يشكل خللا في الفهم لا يمكن وصفه الا بسوء التقدير وتراخي العقلانية في كل ما يحدث من مناكفات بين السياسيين في العراق، الذين يتباهون بتخندقاتهم الضيقة، ويعيدون استنساخ الماضي بعناية فائقة، بل أنهم يتفنون برسم تفاصيله بدقة، والتي كانوا قد تناخوا لمواجهتها على مدى عقود بوصفها تغييبا للحرية و الديمقراطية وحقوق الانسان، بينما يعيدون تطبيق ذات الآليات بطرق مبتكرة، تعميقا لخلافات تضمن بقاءهم في مركز التأثير أطول فترة ممكنة، ليؤكدوا بفلسفتهم الشخصية والعقائدية أن المنصب في العراق له مواصفات واساليب تنفيذ خاصة، لذلك تفتعل الأزمات وتتبخر الحلول ويعاد ترميمها، وكان شيئا لم يحدث، مثلما خلقت صداقات مبنية على عداوات ووشايات وثقة مفقودة ، في مفارقة باتت خصوصية عراقية مؤلمة جذرت الخلل والمزاج الفردي الحاكم، لذلك تواصل هيبة البلاد ترنحها منذ أكثر من نصف قرن ، لم يكن لشعب العراق موقف المتفرج منها مثلما يحدث هذه الأيام، ولأن استمرار الحال من المحال ، فكفاكم ياشعب العراق صبرا على ما يجري، لأن المحنة تجاوزت كل الحدود، والتهدئة باتت من الماضي، بل هي ولدت كذلك، لأن السياسيين يتنفسون الصعداء عندما تزداد الهوة عمقا و تتوسع دائرة التحديات، وحان وقت مواجهة الأمور بعقلانية و بمزاج عراقي وطني يترفع عن كل مفارقات الزمن العاثر، واحلام عصافير ما بعد منتصف الليل، بكل كوابيسها من توافقات ومحاصصات وتهديدات وتسويف!!
رئيس تحرير ” الفرات اليوم”
[email protected]