23 ديسمبر، 2024 9:16 ص

وداعاً يا سيدي الفريق محمد فتحي أمين

وداعاً يا سيدي الفريق محمد فتحي أمين

ما يَدقّ أسىً وحُزناً في قلوبنا وداع قادتنا وأصدقائنا الذين أضحوا أشبه بأوراق الخريف يودّعون هذه الدنيا الدنيئة.. فبعد وداع الفُرَقاء الأعزاء المُوَقَّرين “إياد فتَيِّح، سعدي طعمة، سلطان هاشم” في سجون المجرمين والفاسدين، أتى دورك -يا سيدي الحبيب “أبا مُظهِر”- في أرض الغُربة عوضاً عن أن تكون مُحاطاً بأهلك وأقربائك ومُحِبّيك وسط مدينتك “الموصل” الحبيبة.
أما الذين عملوا تحت إمرتك من ضباط جيش العراق الأبيّ وقواته المسلّحة فإنهم يستشعرون بعلقم فراقك عنهم يوم (الخميس-30/تموز/2020)، حيث كان آلاف الحَجيج يتبرّكون على جبل “عَرَفة” عشيّة عيد الأضحى المبارك… فيما يتوافق أربعينيّتك مع ملايين الزائرين لمرقد الإمام الحُسين (ع) في ذكرى أربعينيّة إستشهاده، وأنتَ في جنات علّيين وفردَوس الخلود مع الشهداء والصِدّيقِين بإذن اللّه تعالى.
أول الغيث
لم أتعرّف معك عن قرب لغاية 1969، فأنتَ من “الموصل” وأنا من “كركوك”، ناهيك عن البَون بيننا عُمراً ورُتبَةً ومَنصباً، وأنتَ من الدورة/27 للكلية العسكرية وقد تخرّجتَ عام (1951)، وأنا من الدورة/41 التي تخرّجتُ فيها سنة (1964).. وكنتَ في (1969) برتبة “عقيد ركن” رئيساً لأركان الفرقة المدرعة/3، وأنا “ملازم أول” آمر سرية باللواء المدرع/6 المُرابِط منذ حرب حزيران/1967في الأردن ثم سوريا.
ولكن شاء حُسن قَدَري أن تقرِّبَني إليك وتكلِّفَني أن أتفرّغ لترتيب كراديس مشاة وأرتال دبابات ومدرعات -تحت إشرافك المُباشر- تُجري إستعراضاً مُصَغّراً لألوية الفرقة ووحداتها في ساحات معسكر “المفرق” الأردني يوم (6/1/1970) بمناسبة الذكرى/49 لتأسيس جيشنا العراقي، وتنظيم سباقات الرمي الدقيق بالعتاد الحي لجميع أسلحة المشاة المتنوعة… فأُعجِبتُ بشخصيّتك الأخّاذة وقوامك الرشيق وقراراتك الصارمة وتوجيهاتك السديدة، حتى إعتبرتُك مثالاً يُقتدى بك وأهلاً للتعلّم منك، فكانت اللَبِنة الأولى لوشائج طيبة جَعلَتني أتعلّق بك مثالاً في العمل الحثيث والتصرّف الحسن.
وكم أسعدتني لَـمّا إستلمتُ كأس الأولويّة الفِضّي في الإستعراض والرَمي من السيد قائد فرقتنا “العميد الركن إسماعيل تايه النعيمي” بحضور قادة أقدمين من الجيش الأردني الشقيق، وإلى جانبهم السيد “ياسر عرفات” رئيس منظمة التحرير الفلسطينية.
ولقد كبرتُ في نظرك -حسب قولك- لَـمّا لم أُوافق على عرضك لأكون مرافِقاً عسكرياً للسيد قائد الفرقة، لكون المنصب -حسب قناعتي- مُنحَسِراً بسكرتارية شخصية أكثر من كونه منصباً عسكرياً، ولو كان البعض من الضباط يتمنّون مثل هذه المناصب لتحقيقق جاهٍ ومكاسب كثيرة في المستقبل لستُ بحاجة إليها.

ودارت الأيام
إنقضت السنون وتسنّمتَ من “اللواء الركن إسماعيل تايه” قيادة الفرقة ذاتَها، والتي كانتَ عند إندلاع “حرب تشرين/1973” رأس الرمح وأول فرقة تصل إلى الأرض السورية وتخوض قتالات ضارية مع الصهاينة من مجموع (خمس) فرق عراقية تحشّدت تباعاً في جبهة الحرب السورية… ولم يكن مستغرباً أن يَشيد بك القاصي والداني، والأعداء قبل الأصدقاء، فكان شرفاً لك ولقادة تشكيلات الفرقة ووحداتها ولجيشنا وعراقنا.
وحلّ عام (1974) وقتَما تخرّجتُ في كلية الأركان والقيادة برتبة “نقيب ركن” لأعود إلى فرقتك بمنصب ضابط ركن/3- حركات لدى مقر لواء المشاة الآلي/8، والذي كان بمثابة قوة ضاربة بأوعَر جبال شماليّ الوطن في الحركات العسكرية لِلقضاء على التمرّد المسلَّح القائم منذ (نيسان/1974) في بقاع “خليفان- كلي علي بك- ديانا- راوندوز” بإسناد إيراني مشهود بالسلاح واللوجستيات وبكلّ شيء.

وعلى الرغم من كون لوائنا خارج قيادتك وتحت إمرة فرقة المشاة الثامنة بقائدها “اللواء الركن عبدالمنعم لَفتة الريفي”، فإنك لم تَنسَ أن تزورنا بمعدلات شبه شهرية للإطمئنان على أوضاعنا وحسن أدائنا وإحتياجاتنا، رغم كون هذه الزيارات ليست من واجبك.
وكم إستشعرنا بفرح عندما هبطتَ بطائرة سمتيّة أوائل (نيسان/1975) بمقر لوائنا في “كَلالة” برفقة القائد اللاحق للفرقة الثامنة “العميد الركن عدنان الجبوري”، لترى بعينَيك إنتشار أفواج لوائنا الثلاثة في أقاصي حدود الوطن ببقاع “جومان، ديلمان، حاج عمران” بُعَيد توقيع إتفاقية الجزائر مساء يوم (6/آذار/1975) والتي سحبت البساط الإيراني والأجنبي من تحت أقدام قيادة “الملاّ مصطفى بارزاني” وإنهيار عشرات الآلاف من مسلّحيه.
موقفك الفروسي
لم يأتِ ببالي يوماً أن تلتزمني وتدافع عني وتدعمني بهذه الصلابة في خلاف شبه شخصي مع آمر اللواء ]]العقيد الركن ع.ك.ن.ج.ح [[ الذي أعمل في مقرّه، وبالأخص من حيث كونه بدرجة “عضو شعبة” لدى حزب البعث وإرتباطه –إستثنائياً- بالمكتب العسكري الذي بات صاحب القِدح المُعَلّى في معظم شؤون الجيش والقوات المسلّحة.
فبعد عودتنا من “كَلالَه” إلى ثكناتنا الدائمية بمعسكر “الوَرّار” أواسط (آيار/1975) ووضع الخطط والمناهج لإعادة تنظيم وحداتنا وتدريبها تهيّؤاً لمهمات مقبِلة، فإن آمر اللواء هذا بدأ يضغط على جميع منتسبي اللواء بضرورة إنضمام من لم يَنتَمِ لحد الآن إلى صفوف الحزب وإلاّ سيُحاسّب ويتأذّى على يديه!!!
ولـمّا كنتُ قريباً منه -بحكم المنصب- وغير راغب بالإنتماء، فإن ضغوطه وتهديداته تضاغفت بإنقضاء الأيام، بل أضحى يرفع عني تقارير حزبية إلى المكتب العسكري بتُهَمٍ باطلة تشير إلى كوني ((تركمانياً، طورانياً، شوفينياً، ولديّ أقرباء وأصدقاء أُعدِموا أو حُبِسوا لأسباب سياسية، وقد عملتُ بالحرس الجمهوري في عهد الرئيس عبدالسلام عارف))، حتى تصادمتُ معه -عُنوة- وسط مكتبه ظهيرة (الأحد- 9/11/1975)، فـ(تَكَهرَبَ) الموقف وأضربتُ عن العمل، ولم تَفِدْ محاولة آمري أفواج اللواء “المقدم الركن حاتم رحومي، والرائد الركن عبد مطلك الجبوري، والرائد الركن حكمت عبدالقادر” لرأب الصدع جراء إصراري على موقفي، وليَكُن ما يكون.
وفيما كنتُ أتوقّع حساباً عسيراً وإجراءات قاسية بإمكان آمر اللواء -إضافة لكونه “عضو شعبة” بالحزب- إتخاذها ضدّي، فقد فوجئنا -من دون إخبار سابق- بحضورك في مقرنا مع الصباح الباكر ليوم (الثلاثاء- 11/11/1975) آتياً مباشرة من “تكريت” إلينا، حيث جمعتَ (ثلاثة) ضباط على إنفراد لإستيضاح الصِدام وأوّلياته، قبل أن تتفهّم مني الإشكالات، وتنزل على آمر اللواء بعبارات مخجِلة يفترض أن لا يقبلها:-
((شوف يا (………)، أنت لا تمتّ للعسكرية بصلة، وأن الأقدار هي مَن حمَّلَت على كتفيك رتبة لا تستحق عُشرَها وتُعَيَّن آمر لواء في فرقة مدرّعة… أنت لا تفقه معنى القيادة… ولا تعدو فرداً قبائلياً بدماغ بَدَوي تافِه وغَدّار)).
تحت إمرتك المباشرة
وبعد تلك (الرزالة الناشِفة) ورغم تراجع “عضو الشعبة” وإعتذاره منك، فقد أوعزتَ لي رزمَ حقيبتي وتهيئة كتاب (إنفكاكي من اللواء بأمر قائد الفرقة)، وأجلستَني بجانبك في سيارتك حتى وصولنا معسكر صلاح الدين لتعمّم برقيةً فورية بتنسيبي لمنصب ضابط الركن3- حركات لدى مقر فرقتك المدرعة، وهو منصب يعلو على ما كنتُ مُثَبَّتاً فيه بمقر ذلك اللواء.
وبإنقضاء أشهر من العمل تحت إمرتك، راقبتُ الكثير من التصرّفات والتقاليد العسكرية التي كانت جديدة عليَّ، ولم أُلاحظها من قبلُ لدى الآمرين والقادة السابقين، ومن أهمّها:-
بعض مواقفك الصلبة أزاء السيد قائد الفيلق/2 “الفريق الركن مصطفى عزيز”، والسادة معاوني رئيس أركان الجيش، وكذلك مع شخص السيد رئيس أركان الجيش “الفريق أول الركن عبدالجبار خليل شنشل”.
العمل الدؤوب الذي كان رئيس أركان فرقتك “العميد الركن هَزّاع فيزي الهزّاع”، وضابط الركن الأول “العقيدالركن عادل محمد زكي” يؤدّونه برِضىً وإخلاص، وكأنهم خليّة نحل لأي واجب يُكَلَّفون به، وإعتبارهم مجرّد رغباتك أوامر يحققونها عن طيب خاطر، ولو كلَّفَهم ذلك سهر لَيالٍ.
عطفك على جنود فرقتك، ومحاسبة أي ضابط يُهين أحدهم بغير وجه حق، حالما تطرق سمعك واقعة من هذا القبيل.
معرفتك لمعظم تفاصيل مجريات الأمور في جميع تشكيلات الفرقة ووحداتها.
صرامتك حيال أيّ ضابط يقترف مخالفة كبيرة في نظرك، وإيمانك بأن ذنوب الجيش أَخوَفُ عليهم من عدوّهم.
تهنئتك بكتاب رسمي بتوقيعك يصل بين يدَي كل ضابط ترفّع إلى رتبة “مقدم” عند صدور قوائم الترقية.
إحتفاظك بمفكرة تسجّل فيها مواعيد حددتها لتنفيذ أوامر أصدرتها، أو وردت من مراجع أعلى.
جولاتك الفُجائية النهارية والليلية -من دون إخبار مُسبَق أو مُمًنهَج- وبمعدل زيارة واحدة تستغرق ساعتين لإحدى الكتائب أو الأفواج وأيٍّ من وحدات الفرقة القريبة أو البعيدة، للإطلاع عن كثب على أوضاعها ومدى تهيئها للحركة الفورية.
تحديدك (سبعة) أيام -على أكثر تقدير- لتلافي أيّ نقص أو سلبية شخّصتَها، ومحاسبة الآمرين بشدة إذا ما أخفق أحدهم بالموعد الذي حددته لحلّها.
تخويلك لضباط ركن قيادتك بالتوقيع -نيابة عنك- على المكاتبات العاجلة في أيام الجمعة والعُطَل الرسمية والأعياد وحتى الأيام الإعتيادية، عدا تلك الموجّهة إلى أعلى الدوائر.
إيعازك إلينا بالراحة عند إنتهاء ساعات الدوام الرسمي بعد الظهر، حتى إن كنتَ أنتَ باقياً بمكتبك، وعدم إلزامنا بالدوام المسائي إلاّ عند الضرورة.
تحديد ساعتين في أوّل يوم ثلاثاء من كل شهر لإجتماع يحضره جميع آمري ألوية الفرقة والصنوف والخدمات لتداول مشكلاتهم وإتخاذ قرارات لمعالجتها، وعدم اللجوء لـ(كتابنا وكتابكم).
تخصيص ليلة الإثنين/الثلاثاء من كل أسبوع لتناول طعام العشاء سوية في بهو ضباط مقر الفرقة مجتمعين سوية.
الإصرار على آمري الألوية وآمري الصنوف بالإحتفاء -تحت رعايتك- بحضور معظم ضباط الفرقة الأقدمين في الذكرى السنوية لتأسيس تشكيلاتهم ومقراتهم.
تكليف كل كتيبة وفوج بإجراء تمرين بالعتاد الحيّ في أواخر الأشهر المخصصة للتدريب الإجمالي في خريف كل سنة تقويمية.
توجيهك لعقوبات معنوية بحق الآمرين المُخفِقين مهما كانت أعذارهم، وعدم لجوئك لعقوبات قانونية -قدر الإمكان- لتفادي التأثير السلبي على سمعتهم ومستقبلهم وتأخّر ترقياتهم.
صغائر الأمور تودي لكبائرها
الذي لا أنساه مطلقاً من بين العديد من المُحاسبات والتَخْجيلات الضرورية، أن أمرتَ المقدم (ع) آمر عينة الفرقة في أحد أيام الثلاثاء التي أشرتُ إليها، حين أمرتَه -أمام عشرات الضباط- بالنهوض، لتتبادل معه الحديث (المُخجِل) الآتي:-
أنت:- مقدم (ع) المحترم.. ما موضوعة مُدَفِّئة “علاء الدين” النفطية؟
هو (مستغرباً):- أي مدفئة سيدي؟
أنتَ:- المُدَفِّئة الجديدة بـ(الباكيت) التي أخرجتها من مستودع عينة الفرقة ونقلتَها إلى مسكن عائلتك بدور الضباط.
هو (مُصفَراً ومرتبِكاً):- سيدي لقد عوّضتُ عنها بمُدَفِّئة من بيتي.
أنتَ:- أكانت المُدَفِّئة التي نقلتها جديدة بالـ(باكيت)؟ وهل كانت ذِمّةً عليك، ومسجّلة في سجلاّتك؟
هو (شبه مُنهار):- كلاّ سيدي.
أنتَ:- ألا تستحي؟ وهل لا تملك (10) دنانير كي تدنى نفسك على مُدَفِّئة حكومية؟
هو:- سيدي الآن بعد ساعة فقط سأُعيدها للمستودع.
أنتَ (غاضِباً ومُستهزِئاً):- تعني -يا أفندي- ونَوّرت المحكمة وحلّيتَ الموضوع!! هذه سرقة مُبَطَّنة لا أتغاضى عنها… غداً تستلم كتاباً بتوقيعي وتذهب مخفوراً إلى إدارة الضباط لتنقلك إلى أيٍّ من وحدات الجيش من دون بديل، لأن هكذا (شكولة ونَمّونة) لا مكان له بيننا.
هو:- سيدي الله يرضى عنك، أُستُر عليّ سَترَك الله دنيا وآخرة.. تره أنا صاحب عائلة.
أنت (غاضباً):- أترك القاعة الآن، فليس لمثلك مكان لدينا.

وبعد فضّ الجلسة إجتمع حولك من يرجو منك العفو عن ذلك الضابط، ولكنك رفضتَ بشدة قائلاً أنَّ:- ((ذنوب الجيش أَخوَفُ عليهم من عدوّهم… وصغائر الأمور -إنْ غُضَّ النظر عنها- ستؤدي لإقتراف كبائرها))… ولم تتنازل عن عقابه ونقله خارج الفرقة إلاّ بعد أن رجوناك جميعاً للرأفة به، ما دام قد إهتزّ وندم وأعاد المُدَفِّئة وأقسم بعدم التكرار بشكل مطلق.

نقلك لمنصب أعلى
رغم غِبطتنا مطلع آذار/1976 بتعيينك أول رئيس لجامعة البكر للدراسات العسكرية العليا في باكورة تأسيسها، وقرار إيفادك إلى الهند لمدة سنة تقويمية تشترك خلالها بدورة “كلية الدفاع الوطني الهندية” الراقية، فإستشعرتُ بألم ينخر أعماقي، لأني سأُفارق الذي وقف إلى جانبي وحماني وإحتضنني، ليس لوحده فحسب بل أن رئيس أركان الفرقة “العميد الركن هزاع فيزي الهزاع” عُيِّنَ قائداً للفرقة المدرعة/10 فيما نُقِلَ ضابط الركن الأول “العقيد الركن عادل محمد زكي” رئيساً لأركان فرقته.
ولم تنقَضِ سوى أيام حتى إستقبلنا “العميد الركن طارق توفيق عبدالرزاق” ليتسنّم القيادة منك، ولم تَقضِ معه سوى (3) أيام حتى ودّعتُك بعيون دامعة… ولكن السيد “عم.ر طارق توفيق” أثبت ذاته أنه خيرُ خَلَف لخيرِ سَلَف، بل ولم نُحِسّ فرقاً يُذكَر -فيما بينكما- في أسلوب القيادة وقوة الشخصية وصرامة القرار وسموّ الأخلاق ونكران الذات وحسن التصرف سوى الفرق البائن في خِلقَة الله سبحانه بينكما.
ما سجلته عنك
لا أحسب ذاتي في حينه -وما زلتُ- بمستوى يؤهلني أن أُقيِّمَك، ولكني بقيتُ أُحَلِّل شخصيتك فتَلَمَّستُك:- ]]]قائداً مخلصاُ ومقتدراً، عاشقاً للعسكرية، حازماً في التعامل وحاسماً في القرار، محبوباً لدى الجميع، محترَماً، وَدوداً، دَمِثَ الأخلاق، كريم النفس، حريصاً على المال العام حتى البُخل، كريماً في ماله الخاص، حَسَنَ الهندام، سَلِسَ الكلام، مُجيدَ الإنصات، حاضِر البديهة، مُمسِكاً -لا يعرف التطرّف- بشآبيب الدين[[[.

الأعوام اللاحقات
وعبرت السنون من دون أن أنقطع عنك، وإنقضى عام كامل على إندلاع الحرب مع “إيران” التي إنشغلنا في أتونها هنا وهناك، حتى عُيِّنتُ آمراً للواء المشاة/422 تحت إشراف مقر الفيلق الأول في “معسكر كركوك” ومن موارده، وكنتَ أنتَ قائده.
يوم (13/أيلول/1981) كنتُ أول شخص من اللواء يلتحق بإمرتك، حيث أوعزتَ لرئيس أركانك المُبدِع “اللواء الركن حازم سليمان البَرهاوي” أن يدعمني بكل ما أحتاج لإستكمال وحدات اللواء خلال الشهرين المحدّدَين لتشكيله -من الصِفر- قبل تحريكه، حتى ودّعتَنا بشخصك صبيحة يوم (11/11/1981) في طريقنا إلى جبهة الفيلق/4 المتشكّل حديثاً في قاطع “العمارة”، وسلَّمتَني كتاب شكر وتقدير لأدائي المتميّز، حسب رؤيتك.
وكم أسعَدتَني بتهنئة بعثتَها بكتاب رسمي -شخصي- مُزداناً بتوقيعك حالما مُنِحتُ سنة قدم ممتاز في معركة “البسيتين” مطلع الشهر/12 من ذلك العام، رغم كون اللواء خارج تشكيلات فيلقك.

عقاب “عميد” لنزعه غطاء الرأس
ولا ينسى معظم ضباط جيلنا، وأنتَ “معاون رئيس أركان الجيش للإدارة” أن جلب نظرك ضابطٌ برتبة “عميد” نزع غطاء رأسه بعد إمتطائه سيارته العسكرية وسط مبنى وزارة الدفاع، فعاقبتَه بـ(3) أيام قطع راتب.
وفي يومنا هذا، كم نتمنى أن يستذكر العراقيون حزمَك وحرصَك وغيرتَك على جيشنا الوطني وعدم تقبّلك مجرّد أن لا يرتدي “عميد” بيريّتَه في ذلك اليوم أو يستبدل “مقدم” مُدَفِِّئة بيته بأخرى من مستودع للجيش، ليقارنوه مع ما آل إليه الضبط والربط والتقاليد العسكرية والفساد والإفساد وسرقة الأموال بالمليارات في “جيش العراق الجديد”؟ وكيف يُرَبّي بعض كبار قادته كُروشَهم فيستجلبون نُكاتاً مُخزِية على أنفسهم؟؟ وكيف يتمشّى الجندي مع الضابط والقائد من دون إحترام وكأنهم أصدقاء وزملاء من دون حاجب؟؟؟ وكيف يهدّد الجندي ضابطه بفصل عشائريّ إذا وقع بينهم خلاف أثناء أداء الواجب وخلال الدوام الرسمي؟؟؟؟ وكم عدد ((الفضائيين والهوائيين))؟؟؟؟ وكم منهم من يستلم رواتب مضاعفة لدى الجيش؟؟؟؟؟ وكيف يٌقبَل المتطوّعون في صفوفه على أساس المحاصصة والطوائف والأعراق والمذاهب والأديان، وبإشراف المُعَمَّمين وممثلي الكتل السياسية؟؟؟؟؟؟

تدرّجك المثالي بالرتب والمناصب
وفي هذه الأسطر، لا بدّ أن أعترف بمحدودية ضبطي للعديد من تواريخ المحطات الرصينة التي مررت بها لدى تدرجك بالمناصب القيادية ومناصب الركن… إلاّ أني أستذكر بعض الشيء بشكل تقريبي.
فالذي يتوفّر لدي من حياتك العسكرية تُعَدّ متواضعة للغاية، فقد باشرتَ تلميذاً بالدورة (27) للكلية العسكرية يوم (14/أيلول/1948) وتخرّجتَ برتبة “ملازم ثانٍ” يوم (30/حزيران/1951) وسط (147) من رفاق السلاح، وإنتميتَ -حسب رغبتك- لصنف المدفعية الذي لم تطلْ في صفوفه كثيراً حتى قُبِلتَ بكلّية الأركان وتخرّجتَ فيها برتبة “رئيس (نقيب) ركن”، وتدرّجتَ بمناصب ركن ساعياً بأوقاتك الخاصة لتُجيد اللغة الإنكليزية حتى أُوفِدتَ لدورة أركان المدفعية لدى أكاديمية المدفعية بالولايات المتحدة الأمريكية، وعدتَ للوطن لتتدرّج بمناصب مختلفة حتى إلتَقَيتُك للمرة الأولى -كما ذكرتُ في مستهلّ هذا الرثاء- برتبة “عقيد ركن” رئيساً لأركان الفرقة المدرعة/3 في الأردن، وذلك قبل أن تتسنّم قيادة هذه الفرقة ربما عام 1972 وتقودها في حرب تشرين/ 1973 على جبهة “القنيطرة- هضبة الجولان” السورية، وتستمر بهذا المنصب حتى تعيينك أول رئيس لجامعة البكر للدراسات العسكرية العليا عام 1976، ثم قائداً للفيلق الأول في “كركوك”، فمعاوناً لرئيس أركان الجيش للإدارة، ثم مستشاراً وسط مجموعة من كبار القادة الكفوئين لدى القيادة العامة للقوات المسلّحة لغاية إحالتكم على التقاعد عام 1987 على ما أتذكّر.

قادة عظام آخرون
وقبل الإختتام، أقول أنك لم تكن لوحدك بين قادة ميدانيّين وآخرين من أصحاب المناصب العالية بوزارة الدفاع أو كانوا ضباط ركن أقدَمين من أولئك الذين تشرّفتُ بالعمل تحت إمرتهم المباشرة أو غير المُباشرة، أو كنتُ قريباً منهم، أو كانوا أصدقائي وعلى تماسٍ معهم، مِمّن أستشعر بقربهم منك بالعديد من الصفات، وقد يَعلون عليك بنقاط أو يدنون عنك في سواها.
ووفاءً لهم أدرج أسمائهم، وفقاً لتواريخ تأَثُّري بإيجابيّاتهم، والذين أسرد أسماءهم بالرُتَب التي حملوها في أواخر خدمتهم:-
اللواء الركن أُسامة محمود المهدي.
الفريق الركن ضياء الدين جمال الشيخ صالح.
العقيد الركن عرفان عبدالقادر وجدي.
العميد محمود بكر أحمد.
اللواء الركن شاكر وُجَر الإمارة.
اللواء الركن صلاح الدين عبدالقادر رشيد.
اللواء الركن عبدالمنعم لَفتَة الريفي.
الفريق الركن إسماعيل تايِه النعيمي.
الفريق الركن عدنان أحمد عبدالجليل.
الفريق الركن نعمة فارس المحَيّاوي.
اللواء فخري عبدالغفور.
اللواء الركن خالد توفيق.
اللواء الركن زكريا عبدالله الطَيّار.
اللواء الركن مُيَسّر إبراهيم الجبوري.
الفريق الركن نجيب أَبتَر عمر.
الفريق أول الركن عدنان خيرالله طلفاح.
اللواء الركن وليد محمود سيرَت.
اللواء الركن طارق توفيق عبدالرزاق.
الفريق الركن عبدالجبار عبدالرحيم الأسَدي.
اللواء الركن سامي قاسم زَينَل.
الفريق الركن طارق محمود شكري.
اللواء الركن فوزي حميد العَلي.
العميد الركن جواد أسعد شِيتْنَه.
اللواء الركن رشّاش جياد الإمارة.
العميد الركن كامل عبداللطيف العزاوي.
اللواء الركن حازم سليمان البَرهاوي.
اللواء الركن سعدالدين شريف العُمَري.
اللواء الركن علاء الدين حسين مَكّي خَمّاس.
الفريق الركن محمد عبدالقادر الداغستاني.
اللواء الركن عصمت صابر عمر.
الفريق الركن عبدالرزاق يعقوب يوسف.
الفريق الركن إياد خليل زكي.
اللواء الركن إحسان محمد رشاد.
الفريق الطيار الركن نجدت مصطفى النقيب.
العميد الركن عماد محمد حسن.
اللواء الركن فاروق توفيق عبدالرزاق.
الفريق أول الركن سلطان هاشم أحمد.

مسك الختام
والآن يحزّ في نفسي وداعك بهذه الأسطر الضئيلة، ولكن لحظة الفراق حانت، لتظلّ روحك الطيبة نبراساً يُنير حياة أولادك وأحفادك الذين هم نِعْمَ الخَلَف وفاءً وأدباً وتربية وأخلاقاً.
وفي هذه الساعة كذلك أُخاطبك أن تنام -يا سيدي الموقّر- رغيداً، قرير العين، فأنت وَمَنْ سَبَقَكَ من قامات العراق وراياته الأجلاّء وبيارقه وشرفائه الذين إلتحقتَ بمواكبهم هم السابقون، وأن آخرين من ذات الطراز سيصطفَون إلى جانبك.
فوَداعاً يا سيدي الحبيب “أبا مظهر”، ومن العليّ القدير والواحد الأحد على روحك الطاهرة المعطاء مليون رحمة لأنك أهلٌ لها، مردّدين أن لن يصيبنا إلاّ ما كتب اللّه لنا، وإنا للّه وإنّا إليه راجعون مهما طال العمر، فتلك مشيئة العليّ القدير التي لا تُرَدُّ في ختام هذه الحياة الدنيئة.