26 نوفمبر، 2024 10:16 ص
Search
Close this search box.

وجوه لا تُنسى

اعتدتُ على أن اتطلع في وجوه المارة وأنا في امكنة مُزدحمة . ليس فضولاً مني ، لكنّ احساساً ، او لأقلْ تمنّياً أن أرى وجهاً اعرفه ويعرفني ، وأنا هنا في هذا البلد الآمن البعيد ، البعيد عن وطني  لم تغادرني العادة ُ هذه حتى بعد أن أ ُحرجتُ مرّة ً .  كنتُ انظرُ واذا بها تسألني : اتعرفينني ؟ اعتذرتُ منها ومشيتُ .  في هذا البلد نجدُ المرءَ حرّاً فيما يفعل شرط َ أن لا يُسيء الى الآخرين .. انت تلبسُ معطفاً سميكاً حين يشتدّ الحرُّ ، ترتدي ما يُغطي نصفَ جسدك شتاءً .. تمشي حافياً ، تجلسُ اوتنامُ على الأرض ، كلُّ هذا لا يستثير نظرات المارة ، اوالجالسين في الحدائق أو المقاهي . لذا لا ينظر الناسُ في وجوه الآخرين .. بيدَ أنّ شيئاً في داخلي يحنُّ ، يأمرُ ، يُنادي ، فأبحثُ في الزحام آملة ً أن التقي وجهاً من وطني افتقدتُه قبل سنين بعيدة .  لم أكلّ او أملّ بعد ان قادتني المصادفات قبلاً والتقيتُ بثلاث من زميلاتي .
هذا اليوم كنتُ في مدينة تبعدُ عن ستوكهولم ساعة ً في القطار . سوق ٌ جديدٌ انشيء هذا العام واسع ، مُتفرع الى عشرات الفروع ، كلُّ فرع مختصٌّ بما لا يُشبهُ غيره .  العادةُ تلك لم انسها . تخفيضات ٌ في الملابس الى سبعين في المئة . هذا ما نطلبُه نحنُ المهاجرين الذين نعيشُ على ماتمدّنا الدولة ُ الكريمة ُ به . كانت تقفُ امام ثوب انيق يُغري بسعره ، تلمسه ، تقرأ قياسه ُ شدّني الثوبُ اليه فتوقفت ُعنده . شعرُها اسودُ ، لا ادري لمَ سألتُها : اتتكلمين العربية ؟  وهي تلتفتُ اليّ : نعم . وسالَ الصمتُ بيننا .. انزلتْ يدها المُمسكة بالثوب ، لم يشدهني الثوبُ كما هزّني مرآها .  لا يزالُ الصمتُ ينتظرُ .. االى هذا الحدّ يتغير مظهرُ الآنسان ؟  كلتانا كانت قد مرّتْ هذه الجملة في ذهنها ، من ايّ بلد انتِ ؟ قلتُ . وردّت : أأنتِ من العراق ؟ اجبتُها ، الستِ نبيلة عبد الواحد ؟ تعانقنا .. بكينا .. ضحكنا .. تبادلنا ارقام هاتفينا . تركنا الثوب وقصدنا مقهى قريباً .. نسينا الوقت ولم ننسَ الحديث عن أيامنا العابرات .  فاجأني اذ اعلمتني انها اتصلت قبل اسبوع بصديقتنا هيام .  اخذتُ رقم هاتفها وعدتُ الى بيتي وكأني أحمل كنزاً . قبل ان اخلع حذائي فتحتُ حقيبتي فاخرجتُ هاتفي .. جلستُ وانا احلم بوجهها . ليتني اراه عبر شاشته ، وقد مضى عليه زمنٌ ولم استبدله بآخر .  عزيزٌ عليّ ، كم انقذني في شدتي واسمعني أصواتاً احبّها . يا للمصادفة ؛؛ لمَ تُشغلين هاتفَك الآن يا هيام ؟ مرّة ً اخرى ، ثمّ ثالثة ًويأتيني صوتٌ : الهاثف لا يردّ .. وسامحتُ المصادفات هذه .  وعذرتُ صديقتي .. قد تكون في سوق مُزدحمة والهاتفُ في حقيبتها .. والضجيجُ يبتلعُ الرنين المخنوق داخلها . الآ يجوزُ أنها ذهبت لتستحمّ فطغى صوتُ الماء المتدفق بقوة ٍعلى رنين هاتفها .. لا أدري اضحكتُ ام بكيتُ حين استعدتُ معاناة ناسنا هناك ، من شحة المياه في بلد المياه . بعد ساعة اعدتُ الاتصال ، جاءني صوتٌ اعرفه ولا اعرفه ، هيام ؟ أنا حنان من السويد .. شهقتها اسالت دمعي فصمَتّ ُ . ظنّتْ أنّ الخط قد انقطع ، وسمعتها تنادي ، تنادي . وصلها صوتي مخنوقاً . سألتُ وسألتْ .  زوجي رحل قبل ثماني سنين . ابنتُها الكبرى اخطأ الطبيبُ في علاجها فساءت حالُها . … / ما أخبارُ سميرة ؟ / هاجرت منذ خمسة اعوام الى امريكا . / وانجيل ؟ / .. / منذ عامين وهي تنتظر في الأردن /  قلتُ لها : / لن أسالُ عن الأخريات ..  هي مَنْ احتاجت الى مَنْ تُسمعها معاناتها ..  فلم تتوقف عن الكلام .. بلا نقط .. بلا فواصل .. بيتُ عبد الرحمن هُجّروا ، وبيت زينب كذلك ، دكتور احسان اغتيل َ ، وقتلوا ابنتيه .  اسكتُّها . هيام ، عزيزتي ، لا اريد ان اسمع المزيد .. سألتني : لمّ لمْ تزورينا ؟ اجبتها : سأفعل .. واغلقتُ الهاتف . وضعتُ يديّ فوق رأسي وظللتُ ساهمة ً ، ثمّ غادرتُ الى المستوصف القريب وطلبتُ قياس ضغط دمي .  وأنا عائدة ٌ الى بيتي كنتُ اردّدُ مع نفسي : لمَنْ سأعود ؟ …..

أحدث المقالات