18 ديسمبر، 2024 4:44 م

وجه مضيء-قصة قصيرة

وجه مضيء-قصة قصيرة

حل الظلام سريعا بعد غروب فاجأ مجموعة الطلبة التي كانت تعبّ المتعة من أجواء الغناء والفرح التي رافقتهم في الرحلة منذ الصباح، فهرعوا إلى الحافلات لئلا يأسرهم الظلام وفي قلوب الكثيرين منهم رجاء لم يُستَجَب بأن يتوقف عرقب الساعة عند النقطة التي تمنع الشمس من الغروب. جلسا في مقعدين متجاورين في وسط الحافلة من جهة اليسار. تلاقت نظرته بنظرة السائق الذي ابتسم له ابتسامة ودية فرد عليها بمثلها. استأنف المصور الذي رافقهم الرحلة نشاطه، اقترب منهما عارضاً عليهما التقاط صورة، استشارها فرحبت بذلك وابتسما للكاميرا بناء على طلب المصور الذي مازحهما بأنه لن يصور الذين لا يبتسمون. انطلقت الحافلة على الطريق الترابي خارج الغابة باتجاه الطريق الرئيسي ببطء، ثم أطلق السائق العنان لرغبته بالسرعة. كان الهدوء يخيم على الجميع، هدوء لاستراحة فرضت نفسها عليهم بعد يوم حافل. بدأ يفكر في اليوم الذي انقضى، يستعيد اللحظات ويمزجها بالحلم، فيأخذه مدّ الأفكار والحلم إلى صور أيام قادمة سيكون لهما فيها تفاصيل وردية، تفاصيل تأتي من حبٍ جنيني على وشك الولادة، ثم يسحبه جَزْرٌ مفاجئ إلى مساحات قاحلة ليس فيها سوى هموم القادم من الأيام، فيهز رأسه يدفعها بقوة لتخرج مدحورة ليبقي الساحة كلها محجوزة للصور التي ملأته سعادة، يحضن هذه الصور ويرعاها كي تكبر وسط ظلام الحافلة، صور فرح يستعيدها من تفاصيل اليوم الذي انقضى فينتشي بها.

***

عازف الأكورديون واقف في وسط حلقة كبيرة من المنتظرين لسماع ألحانه بعد أن خبروه في رحلة سابقة، يبدأ عزفه بطيئاً هادئاً بلحن رومانسيّ جعل الكثيرين يسبحون في فضاءاتهم الخاصة ويتمايلون طرباً، انساب اللحن لخمس دقائق، تفرقوا فيها في فضاءات متباعدة. كان بارعاً، وكأنه يعرف أنهم تفرقوا كلٌ في فضائه الخاص فقرر أن يعيدهم، كان كمن ينصب لهم فخاً ليعيدهم من تلك الفضاءات إلى أرض الغابة الصنوبرية. تحول فجأة إلى لحن سريع راقص دون سابق إنذار، وخلال لحظات اندمج معه ضارب الطبلة، الذي لم يحظَ فرصة سوى بفرصة النقر البسيط على طبلته حتى لا يفسد اللحن الهادئ، فأردف اللحن السريع بإيقاع صب على نار اللحن الراقص زيتاً جعل ألسنة اللهب تتراقص. انطلقت الأكف في تصفيق لاإرادي ملائم للحن، ثم تحركت الأجساد في اهتزازات موضعية تطورت إلى رقصات مرتجلة. نزل إلى وسط الحلقة وبدأ برقصة بين الدبكة الشعبية والرقص الشركسي كما علق على ذلك أحد الظرفاء من أصدقائه “دبكة شعبية هذه أم رقص شركسي؟” فأجاب “خليط منهما، هل لديك مانع؟”، وضحكا. تقدمت من دائرة الحلقة إلى المركز بخطوات متصاعدة حتى وصلته وانضمت إليه مندمجة في الرقصة، يدوران في حلقة صغيرة وسط الحلقة الكبيرة. أمسك بيدها واندمجا في رقصة جعلت الأكف تتعب من مجاراة اللحن المتسارع الصاعد من عزف الأكورديون وضربات الطبلة. لم يدريا كم مضى من الوقت في تلك الرقصة التي انتهت مع صمت الأكورديون وضربة الطبلة الأخيرة التي خرجت قوية ليتلاشى صداها في تصفيق الأكف التي تحولت من التصفيق المرافق للحن إلى تصفيق تحية لهما. جلسا على الأرض، مسح العرق عن جبينه بمنديل أخرجه من جيبه وعرضه عليها فمسحت جبينها به وأعادته إليه.

تفرقت الحلقة في مجموعات ثنائية أو متعددة انطلقت في أرجاء الغابة الجبلية، بينما جلسا يستريحان من الرقصة في ظل شجرة صنوبر يستمتعان بالنسيم الذي يهبّ ناعماً من الغرب ليجفف بقايا العرق ويبرد الجسد الذي زادت الرقصة حرارته فوق حرارة اليوم الصيفي. تحولت الغابة الجبلية إلى جزيرة لهما وحدهما. قاما ومشيا يستمعان لصوت خطواتهما بصمت، كان على وشك أن يقول ما يود قوله منذ أيام، لكنه تراجع، لم يرد أن يقول شيئاً قبل الأوان، التردد الذي يأسره ويمسكه من الخلف بقوة ليمنعه من التقدم خطوة أخرى، ترددٌ يعرف مصدره ويعرف أنه يستمد سطوته عليه من ظروفه الصعبة التي تنتظره والتي لا يعرفها المحيطون به، وربما لا يتخيلون أنه يعيشها.

الهدوء يخيم على الحافلة وسط ظلام لا يقطعه سوى ضوء السيارات القادمة من الاتجاه المقابل.

أضاء نور قوي من السيارات القادمة من الجهة المقابلة عند المنعطف وجهها فرآه وكأنه وجه جديد لم يره من قبل، شفّت الصورة عن بعدٍ جمالي جديد، لعبت روحه، رقص ذلك الشيء الرقيق في الصدر، كانت نصف نائمة، نظر مرة أخرى كان الضوء ما زال ينير وجهها رغم أن الحافلة كانت قد تجاوزت المنعطف والسيارة التي ألقت نور مصابيحها العالية قد أصبحت بعيدة. فتحت عينيها بسبب الضوء وعدلت جلستها في المقعد، نظرت إليه، أراد أن يقول شيئاً، أحس برعشة أوتاره الصوتية التي كانت تستعد لتقول ذلك الشيء، همهم وسكت. انتبهت، سألته سؤالاً لم يعِ منه غير صيغة السؤال التي غلفت صوتها، تحشرج صوته، شعر بالرعشة التي ما زالت في أوتاره الصوتية، هز رأسه بدلاً من الحديث، كانت هزة رأسه تعني نعم وهو لا يدري على ماذا وافق. كان قاب قوسين أو أدنى من البوح، لكنه بلع اهتزاز أوتاره الصوتية إلى الداخل، وقال لنفسه “لا يمكنك الآن أن تبوح، خلفك صفحة فقر كبيرة مكتوبة بقلم لئيم يجب أن تطوى، وتعيش مخاطر اعتقال سياسي بدأ بنشطاء الحركة الطلابية ولا تعرف إن كان سيصلك الدور أم لا، ولا تعرف متى يمكن أن يحصل ذلك”. أبعد التفكير بالهموم وأعاد النظر إلى وجهها فوجده ما زال مناراً بالضوء القوي، تبسم في وجهها دون أن ينبس ببنت شفة.

***

وصل غرفته المستأجرة المتواضعة التي يذكره كل ما فيها بواقعه، ولحسن حظه لم يكن زميله بالسكن موجوداً، ترك له ملاحظة بأنه يزور أقاربه وسيمضي الليل هناك. فكّر بعمل كوب شاي لكنه أسقط الفكرة، واستغل الهدوء والوحدة ليفكر في اليوم الذي انقضى ويستعيد طعم الفرح الذي عاشه. لم يستطع النوم، بقي مستيقظاً حتى ساعة متأخرة يقلّب الأمور ويجري الحوارات مع نفسه يقترب من قرار البوح مدفوعاً بعواطف انتعشت من تفاصيل اليوم الذي أصبح اسمه الأمس بعد منتصف الليل، ثم يبتعد عن القرار بمبررات يطرحها عليه عقله. قام من السرير، جلس على الكرسي خلف الطاولة التي تستعمل لكل الأغراض إضافة للدراسة عليها، أضاء المصباح الكهربائي الوحيد في الغرفة، تناول ورقة وكتب رسالة ملأها بكلمات لا تتأثر بأحبال الصوت التي ما زالت ترتعش، اكتملت الرسالة، قرأها لنفسه، تنفس بعمق، مزقها وعاد ناشداً نوماً سيكون مليئاً بالأحلام التي بدأت حتى قبل أن يبدأ النوم.