17 نوفمبر، 2024 1:40 م
Search
Close this search box.

وجهة نظر ديمقراطية

وجهة نظر ديمقراطية

كثيرةٌ هي الكلمات والمصطلحات التي فرضت نفسها على حياتنا من دون استئذان، ولأننا نعيش في عالم اختلطت فيه المفاهيم وتغيرت فيه الدلالات، كان الرجوعُ الى الأصل تقرّباً للقول الفصل منهاجَ العارفين، وإعمالُ العقلِ في الخبر سمة المتنورين.

وقد اخترت الديمقراطية مثالا. فالديمقراطية أصلاً، هي كلمة مشتقة من كلمتين يونانيتين، ديموس- الشعب وكراتوس – السلطة أو الحكم، فيصبح المعنى: حكم الشعب لنفسه، والمصطلح المناقض لها هو الأرستقراطية وتعني حكم النخبة أو حكم الأفضل، فتغيرت دلالة الأخيرة من حكم النبلاء وانتقال امتيازاتهم وراثياً الى اُسلوب معيشة يمتاز بالرفاهية. ويرى الباحث في تاريخ أثينا التي ظهرت فيها الديمقراطية متأثرة بأفكار فلاسفتها عام ٥٠٠ قبل الميلاد، وهي نفس الفترة الزمنية التي قام فيها عزرا الكاتب بكتابة الأسفار الخمسة الاولى من العهد القديم في بابل، أنّ حكم الشعب لنفسه أصبح ممثلاً بحكم نخبة من الشعب للشعب كلّه، وعلاوة على ذلك فالنساء والعبيد مثلا لا صوت لهم، إذ كان الإنسان (الكامل) بنظر افلاطون وتلميذه أرسطو رجلا ولا قيمة للمرأة في نظرهم، ونلاحظ هنا تغيّر دلالة مبدأ الحب الأفلاطوني من حبّ افلاطون وتعلقه بعالم المُثل الأعلى الى حب الرجل للمرأة، فالذي يقول لحبيبته أحبك حبا افلاطونيا معناه أنه يقلل من قيمتها ويساويها مع العبيد.

أعود الى الديمقراطية فأقول إني وجدتها تأتي بنكهات مختلفة فالمحب للأكل الصيني يرى أن هناك ديمقراطية شعبية شيوعية، والمحب للمطبخ الأوربي يرى أنها أصبحت مقترنة بكلمة جديدة اسمها الليبرالية فأصبح المعنى الحديث للديمقراطية بشكلها الغربي هو الانتقال السلمي للسلطة بوجود دستور يحفظ حقوق الجماعات والأقليات على حدٍّ سواء، وهناك نكهة لا لبرالية أيضاً تكثر في دول العالم الثالث، إذ تفتقر الحكومة المنتخبة أو الجماعة التي استلمت الحكم بانقلاب عسكري مثلا الى دستور يحفظ حقوق الأقليات والأفراد ويقيد حرية معارضي النظام، وهناك نكهات أخرى لا أفهمها ولا أريد أن اصدّع رؤوسكم بها. ويسأل سائل: هل تصح الديمقراطية كمنهج للحكم في مشارق الأرض ومغاربها؟ أليس نظام الحكم في الدول الأوربية يعد من أفضل وأنبل أنظمة الحكم؟ ويتساءل آخر: وما بال الأنظمة الملكية بنوعيها المطلقة والدستورية؟ أليست الدول الملكية في المنطقة العربية صمدت بوجه الربيع العربي الذي رمى بشرر كالقصر كأنه جمالت صفر على رؤوسنا ورؤوس آباءنا وأجداد أجدادنا؟ تلك وكثير غيرها أسئلة مبررة.

إعلم يا صديقي أنّ المجتمعات تختلف في مظاهرها ولكنها تتوحد عموماً في مطالبها، فالكل ينشد حياة كريمة بعيدة عن كل ما يعكر صفو يومه ومستقبله، فالذي يسكن قصرا لندنيا يتساوى مع ساكن بيت شَعر في صحراء النقب في ذلك المطلب، وهنا تتميز المجتمعات التي استثمرت في أبنائها مسبقاً وارتقت بهم فأصبح الوعي الجمعي للمجتمع ككل عاليا مدركا لمواقف قوته وضعفه، مُحددا لأهدافه وساعيا لتحقيقها، ولكن ما تقدم لا يتحقق إلاّ باستقرار اقتصادي واجتماعي وسياسي مع وجود نظام تعليم رصين، فلا مجال للتقدم إذا كانت طبول الحرب تسمع بين فترة وأخرى. فالمتقدم لصندوق الاقتراع في بلد أوربي يختلف جذريا عن المتقدم لنفس الصندوق في بلد من بلدان العالم الثالث، فلا صوت لقبيلة أو عشيرة أو أخوال أو أعمام أو صوت لصاحب دكان للتدين (وليس الدين) يبيع منه ما يتفق مع مصالح شيطانه القرين، فالصوت عنده يكون لمن وافق برنامجه الانتخابي نظرتَه الشخصية. وهذا كلام في العموم، فنفس النظام الديمقراطي الذي مدحته في السطور أعلاه ونفس الناخب الذي وصفته بالمتفوق فكريا قد ارتكب في بريطانيا خطأ ديمقراطيا جسيماً إذ صوت ٥٢٪ من الناخبين البريطانيين بنعم للخروج من عضوية الاتحاد الأوربي لاعتبارات كثيرة قد سبقني كثير في الحديث عنها وعن أسبابها ونتائجها، ولكن سبب الخروج عندي لا يتعدى كلمة واحدة شاملة ألا وهي الجهل. لا تستغرب يا صديقي فعندما تكون حياتك كلها موجهة من حيث لا تعلم وعندما يوهمك من في السلطة أنك حر في تفكيرك ستكون عندئذ مسيرا لا مخيرا في قراراتك التي تقسم بحياتك أنك قد اتخذتها وانت حر، لست هنا بصدد التقليل من قيمة الحرية التي عشتها وأعيشها يوميا في بريطانيا وليس القصد أن اناقش قرار نصف الشعب البريطاني بالانفصال عن أوروبا، الفكرة أنّ هناك حدودا للحرية نجحت الحكومات في الدول المتقدمة بإخفائها فتخيل مواطنوها أنهم أحرار.

وهنا أقول: هل من المنطقي أن الذي لا يعرف من عالمه غير المشحوف (قارب يكثر استخدامه في منطقة الأهوار في جنوب العراق) وأكل المسقوف (أكلة سمك عراقية) أن يتساوى صوته مع العارف والمطلع على ما خفي على عوام البشر؟ وهل تعطي هذه الحقيقة الدافع لسياسيي الصدفة في بلد ما أن يستأثروا بالقرار؟ أراني أمارس هواية عراقية أصيلة بالإشارة الى المشكلة دون حلها، لكني أظن، وليس كل الظن إثماً، أنّ خير ناقد لنفسك هو أنت. هناك سلسلة من المقالات للمفكر العربي المصري د. يوسف زيدان عن موانع التقدم في العالم العربي منشورة في جريدة المصري اليوم تحدث فيها الكاتب عن هموم مشتركة اختلطت فيها الأسباب والنتائج على الأقل من وجهة نظري ولكنك تشم منها رائحة الصدق، الذي قال عنه ذو النون المصري وهو أحد الصوفية الكبار: الصدق سيف الله في الأرض، ما وضع على شيء الا قطعه، وما سعى به ساعٍ الا وصله، وما طلب به طالب الا وتحقق مطلوبه.

قال شاعر عراقي قديماً: قومي رؤوس كلهم أرأيت مزرعة البصل؟ لا أجد أحلى من هذا القول في وصف تدافع الصالح والطالح على السلطة في العراق. وفي الختام أخلص الى نتيجة واحدة بأن الديمقراطية وهم ولكنه وهم جميل.

أحدث المقالات