من الأخطاء الشائعة لدى أصحاب الحل والعقد اهتمامهم بالفروع دون الأصول، أو تفريق المصاديق عن المفاهيم العامة التي تحتويها، مع الاقتصار على الجمل القصيرة في الفهم غير المنتظم، ومن هنا نرى أن كثيراً منهم قد فتح مجموعة من الصفحات التي لا تدخل في دائرة الانتفاع التي تحافظ على الموارد العامة لجميع الناس سواء الذين آمنوا منهم أو أولئك الذين يعيشون ضمن المجتمع الإيماني على الرغم من اختلاف المسميات التي ألزموا أنفسهم بها، ولهذا نشأت فكرة تشييد دور العبادة التي يظن أولئك أنها السبيل الوحيد الذي يهتدي الناس على ضوئه، وكأن علمهم لم يتجاوز المخلفات التي تبين أن عمارة المساجد هي العمارة المادية بغض النظر عن الرسالة المنشودة من ذلك العمران، علماً أن هذا المعنى لا يفهم منه إلا أن يكون مصداقاً للعمارة العامة التي أرادها الحق سبحانه لهذه الأرض، ولذلك أثنى جل شأنه على الإنسان الذي يعمر الأرض دون أن يخرج عمرانه عن المشتركات المادية وما يتفق معها من اللوازم المعنوية والتي ستكون هي السبب المراد تبيانه من ذلك العمل، وهذا ما يظهر من قوله تعالى: (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون) الروم 9.
وقد يتضح هذا الأمر أكثر عند مرده إلى الكبرى التي أشار إليها سبحانه بقوله: (هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها) هود 61. فالإشارة هنا ظاهرة في استعمار الأرض الذي شرعه الله تعالى، والذي أراد من خلاله أن ينتفع الإنسان بالموارد المهيأة له فيها، ولذلك قال سبحانه: (والأرض وضعها للأنام) الرحمن 10. ومن الجهة المقابلة نلاحظ أن الله تعالى قد ذمَّ عمارة الأرض الخارجة عن التشريع، وذلك لدخولها في العبثية التي نهى عنها سبحانه في قوله: (أتبنون بكل ريع آية تعبثون) الشعراء 128. وفي هذا تقريع لأولئك الناس الذين يتجهون إلى البناء غير المبرر، وذلك عندما يُمكن لهم في الأرض علماً أن تخويل الإنسان له ضوابط لا تخرج عن حد التصرف المقرر له في هذه الأرض، وبناءً على تلك الضوابط بين الله تعالى للناس ما يحل لهم وما يحرم عليهم، ثم أمرهم بالإنفاق من الطيب الذي خولهم إياه.
وبناءً على ما مر نفهم أن الملكية يجب أن تكون خاضعة للنظام التشريعي من جهة، ومن جهة أخرى لا يمكن اعتبارها ملكية ذاتية أو حقيقية، بمعنى أن جميع ما يملكه الإنسان سوف يتخلى عنه شاء أم أبى ولهذا وجب عليه التفريق بين حق الانتفاع المؤقت، وبين الحق المطلق في التوكيل العام الذي هو عائد إلى الله تعالى، وقد بين سبحانه هذا المعنى بقوله: (آمنوا بالله ورسوله وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير) الحديد 7. من هنا نعلم أن استخلاف الإنسان وتخويله على ما يملك لا بد أن يرجع إلى مجموعة من الأسباب أهمها ما يكون تحت عنوان الفتنة والاختبار وكذا التمحيص الذي يراد منه التمييز بين الحسن والقبيح أو النافع والضار، وهذا ما أشار إليه تعالى بقوله: (فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا
يعلمون) الزمر 49. من هنا يظهر أن الارتباط بالأسباب هو الاعتقاد السائد لدى الإنسان الذي هو خارج الأطر التشريعية، وهذا ما يجعل اعتماده على تلك الأسباب يُبعد عنه الاعتراف بالمؤثر الذي تنتهي إليه الأسباب جميعها، وهذا ما يُفهم من قوله تعالى: (وأن إلى ربك المنتهى) النجم 42. وهذه الحقيقة لا يمكن أن تكشف لمن تخلف عن منهج الحق إلا عند الموت والانتقال إلى النشأة الأخرى، كما هو ظاهر في قوله تعالى: (فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد) ق 22.
أما في هذه النشأة فإن الممارسات العملية التي اعتاد عليها الإنسان هي التي تتكفل بإخفاء الحقائق التي لا يمكن أن يشاهدها إلا من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، ولهذا قال تعالى: (ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً) الإسراء 72. علماً أن المتقين لو كشف لهم الغطاء فالأمر لا يفرق عندهم، ولهذا نرى تعلق الإنسان في هذه الأرض والركون إليها، والانقياد إلى من يتوهم أنه سيكون المنقذ له في الدنيا والآخرة، ومن الأمثلة على ذلك ما ورد في قوله تعالى: (ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً) الكهف 36. وكذا قوله: (وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة) البقرة 80. وقوله: (ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) آل عمران 24.
وبناءً على ما تقدم نعلم أن هذا الاعتقاد هو الغرور السافر الذي يتمسك به الإنسان، وكأنه الشفيع أو المخلص له من عذاب الله تعالى، ولهذا تراه مرتبطاً بهذا الأمر ارتباطاً وثيقاً، ومن مصاديق ذلك تعلقه بالأهل والأصدقاء وصولاً إلى المثل الأعلى الذي يجعل له نصيباً من التأليه، إضافة إلى الممتلكات التي يظن أنها لا تفترق عنه أو يفترق عنها، ومن هنا نجد أن الحق سبحانه وتعالى يضع الإنسان أمام الصورة التي تجعله خاضعاً لمشيئته، دون أن يستقل بالأسباب، وذلك لأن مردها إليه سبحانه، فاتخاذ الأنداد من دونه، وما يدخل ضمن مسمياتها من أرباب فهؤلاء ليس لهم من الأمر شيء، بل الأمر لله تعالى كما بينا. وبهذا يظهر أن اتباع الأسياد لا يمكن أن يُنقذ الإنسان من ذلك الموقف الرهيب أو ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيباً، وهذا ما يظهر من التقريع والتوبيخ الذي ذكره تعالى في قوله: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون) الأنعام 94.
فإن قيل: الآية تجري في جميع الناس، سواء منهم المؤمن أو الكافر، باعتبار مجيئهم بهذا الشكل أو تركهم ما خولهم الله تعالى وراء ظهورهم، فلماذا خص سبحانه بالخطاب مجموعة منهم، كما يظهر ذلك من خلال التقريع؟ أقول: الخطاب يعم الجميع إلا أن ذلك لم يوجه إلى المؤمنين باعتبار أنه مفهوم لديهم كما بينا هذا المعنى في الإشارة إلى كشف الغطاء. وكذا في الآية التي أشار فيها سبحانه إلى من هو أعمى في هذه النشأة وكذا في النشأة الأخرى، وأنت خبير من أن هذا النوع من الناس قد استمتع بجميع الطيبات في الحياة الدنيا دون أن يدخرها للآخرة، وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (ويوم يعرض الذين كفروا على النار أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون بما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق وبما كنتم تفسقون) الأحقاف 20.
هذا ما لدينا وللمفسرين في آية البحث آراء:
الرأي الأول: قال القرطبي في الجامع لأحكام القرآن: المعنى: جئتمونا واحداً واحداً، كل واحد منكم منفرداً بلا أهل ولا مال ولا ولد ولا ناصر ممن يصاحبكم في الغي، ولم ينفعكم ما عبدتم من دون الله. وقرأ الأعرج (فردى) مثل (سكرى) بغير ألف (كما خلقناكم أول مرة) أي منفردين كما خلقتم. وقيل عراة كما خرجتم من بطون أمهاتكم حفاة غرلاً بُهماً ليس معكم شيء. وقال العلماء: يحشر العبد غداً وله من الأعضاء ما كان له يوم ولد، فمن قطع منه عضو يرد في القيامة عليه. وهذا معنى: “غرلاً” أي غير مختونين، أي يرد عليهم ما قطع منهم عند الختان.
قوله تعالى: (وتركتم ما خولناكم) أي أعطيناكم وملكناكم. والخول: ما أعطاه الله للإنسان من العبيد والنعم (وراء ظهوركم) أي خلفكم (وما نرى معكم شفعاءكم) أي الذين عبدتموهم وجعلتموهم شركاء “يريد الأصنام” أي شركائي. وكان المشركون يقولون: الأصنام شركاء الله وشفعاؤنا عنده (لقد تقطع بينكم) قرأ نافع والكسائي وحفص بالنصب على الظرف، على معنى لقد تقطع وصلكم بينكم. ودل على حذف الوصل قوله: (وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم) فدل هذا على التقاطع والتهاجر بينهم وبين شركائهم: إذ تبرءوا منهم ولم يكونوا معهم. ومقاطعتهم لهم هو تركهم وصلهم لهم، فحسن إضمار الوصل بعد (تقطع) لدلالة الكلام عليه. انتهى باختصار منا.
ومن أراد ما تبقى من رأي القرطبي فليراجع تفسير الجامع لأحكام القرآن.
الرأي الثاني: يقول الطباطبائي في الميزان: (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) إلى آخر الآية الفرادى جمع فرد وهو الذي انفصل عن اختلاط غيره نوعاً من الاختلاط ويقابله الزوج وهو الذي يختلط بغيره بنحو ويقرب منهما بحسب المعنى الشفع والوتر فالوتر ما لم ينضم إلى غيره والشفع ما انضم إلى غيره، والتخويل إعطاء الخول أي المال ونحوه الذي يقوم الإنسان به بالتدبير والتصرف. والمراد بالشفعاء الأرباب المعبودون من دون الله ليكونوا شفعاء عند الله فعادوا بذلك شركاء لله سبحانه في خلقه والآية تنبئ عن حقيقة حياة الإنسان التي ستظهر له حينما يقدم على ربه بالتوفي فيشاهد حقيقة أمر نفسه وأنه مدبر بالتدبير الإلهي لا غير كما كان كذلك في أول مرة كونته الخلقة، وأن المزاعم التي انضمت إلى حياته من التكثر بالأسباب والاعتضاد والانتصار بالأموال والأولاد والأزواج والعشائر والجموع، وكذا الاستشفاع بالأرباب من دون الله المؤدي إلى الإشراك، كل ذلك مزاعم وأفكار باطلة لا أثر لها في ساحة التكوين أصلاً.
ويضيف الطباطبائي: فالإنسان جزء من أجزاء الكون واقع تحت التدبير الإلهي متوجه إلى الغاية التي غياها الله سبحانه له كسائر أجزاء الكون، ولا حكومة لشيء من الأشياء في التدبير والتسيير الإلهي إلا أنها أسباب وعلل ينتهي تأثيرها إليه تعالى من غير أن يستقل بشيء من التأثير. غير أن الإنسان إذا ركبته يد الخلقة وأوجدته فوقع نظره إلى زينة الحياة والأسباب والشفعاء الظاهرة وجذبته لذائذ الحياة تعلقت نفسه بها ودعته إلى التمسك بذيل الأسباب والخضوع لها، وألهاه ذلك عن توجيه وجهه إلى مسبب الأسباب وفاطرها والذي إليه الأمر كله فأعطاها الاستقلال في السببية، لا هم له إلا أن ينال لذائذ هذه الحياة المادية بالخضوع للأسباب فصار يلعب طول الحياة الدنيا بهذه المزاعم والأوهام التي أوقعته فيها
نفسه المتلهية بلذائذ الحياة المادية، واستوعب حياته اللعب بالباطل والتلهي به عن الحق، كما قال تعالى: (وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب) العنكبوت 64. انتهى.
ومن أراد ما تبقى من البحث فليراجع تفسير الميزان.